الحوار الذي فتح الطريق إليه خطاب السيّد رئيس الجمهورية بقاعة الصداقة في السابع والعشرين من يناير الماضي ربما يعد الفرصة الأخيرة للموالاة والمعارضة من القوى السياسية السودانية، لكي تعيد الثقة إلى نفسها وتستشعر الأخطار التي تحدق بالبلاد وتحيط بها إحاطة السوار بالمعصم وأشد من ذلك، وهو فرصة أيضاً تتيح وقتاً مناسباً لهذه القوى لكي تمضي خطوات نحو بعضها البعض تتجاوز الصغائر ومحطات المرارات التاريخية والخلافات البينية التي قعدت بنا سنوات طوال بعيداً عن سبيل التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتطور والنهضة، بينما كثير من الشعوب لملمت جراح ماضيها وضمدتها بروح المسؤولية وانطلقت. وهذا الحوار فرصة أيضاً نادرة لهذه القوى السياسية لكي تثبت لجماهير الشعب أنها جادة ومسؤولة وتمتلك برامج وأفكاراً وتجارب ودوافع مخلصة لاجل الارتقاء بمسيرة البلاد من خلال هذا التنوع والتعدد في البرامج، وليست مجرد طحالب سياسية عالقة بجدران البلد تمتص من دماء الشعب وحقوقه الوطنية. كما ذكرنا من قبل من خلال هذا العمود «دلالة المصطلح» أن الحوار نقاش وتبادل آراء وإبداء مواقف يجري بين طرفين أو أكثر إيماناً من أطراف الحوار، بغية الوصول إلى قواسم مشتركة تنزع فتيل الخلاف وتقرب وجهات النظر لبلوغ غاية أسمى من مصالح الذات الضيقة. اذا بحثنا عن هذه الغاية الأسمى التي ينبغي أن تبلغها القوى السياسية في حوارها هذا، نجدها هي الاتفاق على ثوابت الأمة ثم ثوابت هذا الوطن، وهي بشرح غير مفصل هوية هذا الشعب والدستور الذي يحكم به والالتزام الصارم بحماية الأمن القومي وسيادة حكم القانون، والتزام المؤسسية والشورى، وتثبيت دعائم العدالة الاجتماعية ورفع الظلم، وبسط العدل والحريات وحق ابداء الرأي، وحماية حقوق الإنسان، والتنمية المتوازنة وحسن توزيع الثروة، وكفالة المشاركة لأبناء الوطن كلهم في إدارة شؤون البلاد والإسهام في تنميتها، وان يكون ذلك من بوابة الكفاءة كلٌّ في ما يناسبه بعيداً عن المحسوبية والواسطة القاتلة والجهوية والطائفية الضارة. إن طرح فريق مشروع حكومة انتقالية، وثانٍ يرى حكومة قومية، وثالث يتحدث عن انتخابات مبكرة، ورابع حامل للسلاح، وخامس يتشدق بمؤتمر دستوري .. الخ.. هذا لا يعني أن مسيرة الحوار وبرنامج الوفاق الوطني قد انطلق، لأن ذلك كله تم فقط في إطار التناول الإعلامي والدفع بشروط مسبقة قبل انعقاد جلسات الحوار، الأمر الذي يقوي معضلات التجاذب والتنافر من جديد.. الحوار ليس ممارسة الإرهاب الفكري على الآخر وتخويفه مسبقاً، إنما الحوار وضع خطة ومشروع عمل وتحديد آليات تنفيذ، ورسم فلسفة تنزيل واعتماد وسائل إقناع وشيء من المرونة، وتوقع احتمالات اجراء تغيير في بعض جوانب البرنامج، ثم الجلوس إلى الآخر والوقوف أيضاً على برنامجه ثم بعد ذلك تنطلق مناقشات الحوار. إن الذي يعيق اكتمال حلقات الحوار بين القوى السياسية «عور» فكري ومنهجي، إذ مازالت بعض القوى السياسية للأسف تفهم معنى الحوار انه اتصال نقاش مع الحزب الحاكم والحكومة ينتهي بالمشاركة وانخفاض صوت المعارضة!! جاهلة أو متجاهلة أن دور التنظيم السياسي أكبر من ذلك، إذ لا بد له من منهج وبرنامج عمل متكامل ورؤية خاصة لمعالجة أوضاع البلاد، مع تفهم تام لمفهوم ثوابت الأمة والشعب والمجتمع. هذا العور في الدولة والمعارضة على حدٍ سواء!! إذ لم يحدد حتى الآن جدول انطلاق الحوار ومكانه والقضايا التي تطرح للنقاش والحوار، وإن كان بعضها معلوماً ضرورة مثل الدستور الدائم، والمطلب الشعبي العام بعودة الشريعة، وبسط الحريات و نبذ العنف والحرب، وبناء هرم السلام والتصالح القبلي والاجتماعي وغيرها، لكن كل هذا يبقى لبنات ناقصة لا تكمل البناء، حتى يوضع جدول عام لهذه القضايا يوافق عليه المتحاورون ويعزز بميثاق شرف وطني، أما أن يتكلم هذا ويصرح ذاك لا يعدو هذا الفعل أن يكون مجرد قفزات ولعب على جسد الشعب فوق طاولة الحوار. الحوار الوطني الجامع الذي نتطلع إليه هو الحوار الذي يُخرج القوى السياسية الوطنية في نهاية اجتماعها وهي راكبة مركبة واحدة اسمها الدفاع عن الثوابت الوطنية المستقاة من قيم وارث وهوية هذا الشعب، ولها بعد ذلك ان تختلف في فرعيات برامجها وفلسفات وسائلها، شريطة على مفهومنا «نحن الشعب» الفكري «الوسائل تأخذ أحكام المقاصد»، وليس على منوال القاعدة المستوردة «الغاية تبرر الوسيلة». إن المؤتمر الوطني تقع على عاتقه مسؤولية اخلاقية بصفته الحزب الحاكم وبطبيعة الحال صار الحزب الأكبر، لتوفر امكانات الدولة في يده، فلذا يجب عليه أن يسعى نحو القوى السياسية العريضة التي وافقت على مشروع الحوار الوطني، بل يجب عليه ان يهرول ويدع التخندق في محور القوة والتأييد الذي يتوهمه، كما على بعض القوى السياسية الأخرى أن تسلخ جلدها الذي أصابته أمراض «الكريمات» لوقوعها تحت تأثير قوى دولية شريرة، وارتمائها في أحضان العمالة والارتزاق، وأن تدرك أنه يتوجب عليها أن تكون أحزاباً وطنية خالصة. وهنا إن كانت من إشارة دون تفصيل فلا بد من الإشادة بمواقف المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي وحركة الاصلاح الآن، التي أبدى أقطابها مواقف مستحسنة وتفهماً يليق بأثرهم الفعّال المعروف، الأمر الذي يسهل الطريق ويمهده بالورود نحو الحوار، ونأمل أن تسير قوى أخرى على تلك المواقف من أجل إنقاذ وطن جريح، وطن يكاد يتلاشى من سوء أفعال بنيه. ويبقى آخر ما نشير إليه هنا قضية الإرهاب الفكري والعبث الذي مارسه وفد ما يسمى قطاع الشمال الذي قاده عرمان، العبث هو طرح مشروع حكم ذاتي لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ومشروع مؤتمر دستوري، ثم طرح مشروع يربط جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، ولعل القارئ يدرك بعد ذلك ما يرمي إليه ما يسمى قطاع الشمال المقطوع الذي «عذبنا» أو بالأحرى نحن من عذّب أنفسنا حين وافقنا على الاعتراف به ومحاورته، وهو المقطوع من أصل خبيث مضى عنا بحمد الله، وهو ما يسمى قطاع الشمال ليس حزباً سياسياً بل هو حركة ارهابية مسلحة، بدليل أن هناك بلاغات وجنايات مفتوحة ضد اعضائه في قضايا تتعلق بجرائم حرب وابادة، فمن الذي اعطى الحق لعرمان والحلو لكي يفاوضا نيابة عن أبناء كردفان وأبناء النيل الأزرق؟ وهما ليسا «منا» بل هما عدوان لنا جاءا إلى تلك المناطق في«نفير» الحركة الشعبية «غير الشريف» والآن انتهى النفير فما الذي يجعلكم يا أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق توافقون على تمثيل عرمان والحلو لكم وهما اللذان اشعلا الحرائق والقتل والدمار والخراب في جنوب كردفان والنيل الأزرق؟ من المؤسف المؤلم أن عرمان بدا من خلال مفاوضات أديس ابابا الاخيرة بصحة تااااامة وعافية مرح وفرح يغازل الخواجات، بينما بدا أبو مدين ضعيفاً مهموماً، وبدا بعض أعضاء وفد جنوب كردفان مهمومين حائرين ايضاً أليست هذه مذلة ونكاية؟! إني من خلال هذا العمود «أطلق مبادرة طرد عرمان والحلو من حق تمثيل جنوب كردفان، لأن جنوب كردفان فيها رجال ونساء قادرون على تمثيل أنفسهم وأهليهم وولايتهم، عالمون بجراحهم، وأرجو ان يتداعى وفد شعبي من الادارة الاهلية وقيادات اجتماعية وحزبية وشباب وطلاب ومرأة لاجتماع يناقش هذه المسألة ويلتقي بقيادة الدولة، وأرجو من الدولة أن ترحب بتلك الفكرة ليناقش أهل المشكلة الحقيقيون مشكلتهم بعيداً عن الطرح العبثي هذا، وأرجو أن ينحو اخوتنا في النيل الأزرق هذا النحو أيضاً.. وأن لم نفعل هذا أو مثله سيحيل عرمان والحلو وعقار قضيتنا إلى جنوب جديد وقد صرحوا بذلك، ومن هنا نطالب بايقاف تفاوض الحكومة مع قطاع الشمال في ما اصطلح عليه بقضية «المنطقتين» ومن هنا أدعو اعضاء الهيئة التشريعية والقومية واعضاء مجلس الولايات الممثلين لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى تبني المبادرة والدفع بها قانونياً وتشريعياً، وإلاّ سوف يطرح عرمان ووفده المشؤوم قضية تقرير المصير لجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور على رؤوسنا نحن أبناء المنطقتين ونحن موتى غافلين. إن تحريك المظاهرات وتسليم المذكرات بشأن حصر التفاوض في المنطقتين ليس كافياً، وقطاع الشمال الآن في أضعف مراحله بعد اندلاع القتال في الجنوب وسحق أكثر من 70% من قدرات الجبهة الثورية، وفي المقابل انطلقت وثبة الدفاع الشعبي الثانية استكمالاً لعمليات الصيف الساخن، وتأكيد رجال القوات المسلحة في الفرقة «14» حسم باقي الفلول قبل أن يأتي دور السياسيين المفاوضين في أديس، والأهم من ذلك تأكيد السيد رئيس الجمهورية ألاّ تفاوض ثنائي مع ما يسمى قطاع الشمال حول ورقته للحل الشامل، وهذا يعني حصر التفاوض بشأن المنطقتين، وقطاع الشمال ليس أهلاً حتى لحل مشكلات المنطقتين دعك من الحل الشامل.. ولذلك استئناف المفاوضات اليوم تحصيل حاصل وحراثة في بحر.