تشهد الساحة السياسية السودانية، هذه الأيام، حراكاً محموماً بين كثير من الأطراف بناءً على المرتكزات التي وردت في خطاب السيد رئيس الجمهورية الذي دشن مبادرة حزبه للحوار مع أحزاب المعارضة. وتلك المرتكزات هي تحديداً السلام والحريات السياسية والحريات العامة والاقتصاد ومحاربة الفقر والثوابت الوطنية والهوية. وحسب رأي أحد الناشطين الفاعلين فإن السودان يشهد الآن فرصة مواتية لم تتح له منذ الاستقلال للعبور بالبلاد نحو الاستقرار والسلام وتحقيق الوفاق الوطني. وإذا أردنا للحوار أن يستمر ويحقق أهدافه، فلا بد أن تتوفر له مجموعة من الشروط والضوابط، أولها أن يكون الحوار جاداً ويشمل كل السودانيين في الحكومة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمتمردين، مع توفر أقصى حد ممكن من المصداقية وحرية التعبير، على أن يكون الهدف هو وضع حد لمشكلات البلاد وفي مقدمتها النزاع المسلح الذي أوقف عجلة التنمية اقتصادياً وأمنياً في كثير من أجزاء السودان. وهذا الحوار يجب أن يرتكز على منهجية قويمة لأن السودان، أو بالأحرى النخب السياسية التي تنشط في الساحة الآن، إذا أضاعت هذه الفرصة قد تدخل البلاد في دوامة من العنف لا تبقي ولا تذر، خاصة إذا علمنا أن مثل هذه السانحة لم تتوفر منذ أن نال السودان استقلاله، ولكي يؤتي هذا الحراك أكله ينبغي أن يكون بطريقة متكافئة ويغلب عليه الهدوء والبعد عن التعصب، والشروط المستحيلة أو المسبقة من أي طرف كان، من أجل تحقيق أكبر قدر من الفهم المشترك والتفاهم، سعياً للوصول إلى إجماع وطني حول القضايا الكبرى والشائكة. لكن إذا ثبت أن هذا الحوار لا يعدو كونه تخطيطاً مرحلياً لتحقيق مكاسب آنية وغير إستراتيجية، فإن العواقب ستكون وخيمة بكل المعايير. وإذا لم يتسع صدر الحكومة وتتحلى بالصبر وطول النفس، فإنّ ما حدث في جامعة الخرطوم سيتكرر في جامعات أخرى، وهذا لوحده يكفي لأن يكون دليلاً على فشل النخب السودانية في التواصل والحوار، إذ مازال الطلاب في أعرق جامعة سودانية يقتل بعضهم بعضاً لمجرد الاختلاف في وجهات النظر والفكر السياسي، أو لأسباب قبلية أو جهوية، فما بال الكبار الذين يملكون السلاح والمال والمعلومات ووسائل النقل والاتصالات وربما الرجال المدربين! ومتى يا ترى سيكف الساسة وأصحاب الأجندة الخفية عن الزج بطلابنا في أتون هذا المعترك الآسن الذي لا يخدم غرضاً سوى حصد أرواح الأبرياء من الشباب وتعطيل الدراسة وغرس مزيد من الغبن في النفوس؟ عموماً، الحوار في حد ذاته ممارسة حضارية حتى لو كان مع أمثال الرويبضة ياسر عرمان، مع علمنا التام بأن هؤلاء لا يرغبون أصلاً في التوصل إلى حل أو تسوية سياسية، لأن ذلك يتعارض مع مصالحهم الشخصية وارتباطاتهم الآيديولوجية التي دفعت بهم إلى رهن مستقبل الوطن مقابل حفنة من المال وشيء من أسلحة مستعملة يستخدمونها لترويع الآمنين من المواطنين تحت ذريعة النضال المزعوم باسم جهات لم تمنحهم أي تفويض لتمثيلها والتحدث باسمها، وإنما كل ذلك جزء من «الطبخات» سيئة الإعداد والنية لزعزعة هذا الوطن المنكوب بهذه الفئة من أبنائه. وبما أن المؤتمر الوطني يمثل كبير العائلة سياسياً في الوقت الراهن، فإن المطلوب منه أن يقدم مزيداً من التنازلات، وليس الترضيات والمعالجات الجهوية والشخصية غير المدروسة، أي ألا يجرب المجرب بعد ثبوت فشله، كما ينبغي عليه أن يلجم كل الأصوات التي تعارض التقارب مع الجهات المعارضة له، سعياً منها هي الأخرى إلى المحافظة على مصالحها التي تحققت لها بطول المكوث على كراسي السلطنة وسياسة التمكين، لأن الظروف السياسية على كل المستويات، سواء منها الداخلية أو الإقليمية أو حتى الدولية، لا تبشر بخير، فهنالك جهات كثيرة لا تريد لهذا الوطن العملاق أن ينعم بالاستقرار! وفي ظل هذا الوضع بالغ التعقيد، تقع المسؤولية المباشرة على عاتق النخب السياسية وقادة العمل الحزبي والناشطين في كل المجالات الفكرية والثقافية والإعلامية، والأكاديمية، من أجل إدارة حوار هادف يفضي إلى وضع حل معقول وقابل للتنفيذ للمشكلات الوطنية، إن صح التعبير، التي ظلت قائمة منذ فجر الاستقلال وحتى هذا اليوم، مع أننا قد احتفلنا بالذكرى الثامنة والخمسين لعيد الاستقلال المجيد. ويعد هذا مطلباً ملحاً وضرورياً إذا كنا فعلاً حادبين وحريصين على وضع حد لمعاناة المواطن، ببذل كل الجهود الممكنة حتى ترسو السفينة على بر آمن من شأنه أن يحافظ على وحدة ما تبقى من تراب الوطن، ويعيد ما انفتق من نسيج اجتماعي بفعل الحروب والزعازع إلى سالف عهده من تعايش سلمي وتواصل وتبادل للمصالح المشتركة والود تحت مظلات أرفع من الانتماء القبلي والجهوي، عبر منظمات مجتمع مدني وتكوينات حديثة ترتقي بالممارسة السياسية والعمل العام، حفاظاً على أمن البلاد والعباد، وحتى ينال كل ذي حق حقه في الثروة والسلطة والتنمية، وحينها سيكون من السهل جداً وضع خطط عملية وحضارية لمعالجة المشكلات الموروثة التي عطلت دولاب التنمية وحرمت المواطن من الحصول على ما يستحق ويأمل من عيش كريم واستقرار، ومأكل ومشرب وتعليم وصحة، حيثما كان داخل الوطن لا يضيره كونه في الغرب أو الوسط أو الشمال. وبالطبع ليس هنالك عاقل يسعى إلى عرقلة الوفاق الوطني، ولكن لا بد من إيجاد آليات محايدة، مع وجود رؤية وأهداف، دون شروط مسبقة من أي طرف كان، الحكومة أو معارضيها، لأن جسد السودان قد أنهك وأصابه الهزال وأضنته ظروف المعيشة والفتن المتكررة، إذ لا يكاد يتماثل للشفاء حتى تطل عليه محنة سياسية أو اقتصادية تصيب الناس باليأس والقنوط. ويجب أن يكون الباب مفتوحاً لكل سوداني مخلص لكي يدلي بدلوه في هذا الصدد دون قيد أو شرط، لأن الأمر يتطلب تضافر الجهود الوطنية المخلصة وتوفر حسن النوايا بعيداً عن التحريض والأجندة الضيقة جهوياً، أو حزبياً، فالأمر الآن يتعلق بالوطن كله، وصولاً إلى مستقبل أفضل بإذن الله.