ربما هو المنشط السياسي المفتوح الأول الذي يدشنه الشيخ حسن الترابي لصالح حلفه القديم من مسرح «أم جرس التشادية» منذ انشطار الإسلاميين عبر حركة الرابع من رمضان الشهيرة، وربما هو أيضاً وعد قطعه الترابي على نفسه إبان سنوات خصامه مع حكومة البشير حينما صرح بأنه قادر على حل عقدة دارفور بجهد زهيد وزمن قليل. وهو رهان قد ينجح فيه الرجل أو يفشل، ولكن يظل هذا التحرك له أبعاده وتأثيراته وإسقاطاته إيجاباً أو سلباً على مجمل الأحداث وتداعياتها وتعاطي القوى السياسية معها.. والترابي الآن يبدو أنه يحاول استرداد سلطانه القديم وإعادة مفاتيح «اللعبة السياسية» بمزيد من الأضواء على تحركاته وأفكاره ومواقفه السياسية إزاء ما يجري من تحولات في القضايا السودانية الكلية، خصوصاً إذا أفلح في أن يلعب دوراً محورياًَ في تجسير الشقة بين الحكومة والحركات المسلحة بحكم الروابط التي كانت قد تحدثت عنها الحكومة بأن المؤتمر الشعبي يغذي بعض حركات دارفور فكراً وسياسة، وأن حركة العدل والمساواة تشكل جناحاً عسكريًا ل «الشعبي». ولكن في الضفة الأخرى، ينظر الخصوم بترقب وتوجس للحراك العام في المعسكر الإسلامي بعد عودة المؤتمر الشعبي أو عودة الوطني للحلف الإسلامي.. لأن حقيقة هذه العودة ما زال فيها غبش وجدال.. من الذي عاد؟ ومن الذي بقي؟ ثم من هو الذي خرج على المبدأ والفكرة؟ ولكن المهم في القضية أن الحركة الإسلامية تشظت كثيراً طيلة سنوات القطيعة. تعديلات «مضطربة» تعاني ولاية الجزيرة الآن حالة «اللا وزن».. واللا رؤية .. لحظات من التيه والتغييب والاضطراب سرت في أوصال أهل الجزيرة وأثقلت عليهم معاشهم بمزيد من الإحباطات والأحزان.. جاء كشف التنقلات الذي بثه تلفزيون الجزيرة فأطلت ذات الوجوه «المكرورة» بتجاربها العاجزة على الواجهة مجدداً، لم تبدلها المحن ولا إرادة التغيير. فالحزب الحاكم هناك بلا إرادة وبلا تجديد. كنا نظن أن أوراق الضغط، وصراع المركز والولاية سيجنب الولاية المزيد من السقوط ويأتي لها بطاقم حكومي تلتف حوله كل قطاعات الولاية ويمسح دموعها وأحزانها، وأخطر ما جاء في قرار التنقلات الدستورية الجديدة هو شطر محلية المناقل إلى نصفين بضربة واحدة وبقرار فوقي بلا تفاهمات أو اتفاقيات ولا يستند إلى قاعدة، فخرجت محلية «24» القرشي من رحم «المناقل الأم» بولادة متعسرة فاهتزت القاعدة الجماهيرية، وهدد مواطنو منطقة «الماطوري» بالرحيل غرباً صوب ولاية بحر أبيض حال عدم تراجع حكومة البروف عن هذا القرار، ولهذا ظل القرار هكذا معلقاً بين الثرى والثريا، ومهما حاولت حكومة «الوالي» فرضه على واقع الناس، فأجهزة التشريع هناك غائبة أو محلولة فخرجت القرارات فطيرة تبحث عن مشروعية مستحيلة. كل المعطيات بالجزيرة تبحث الآن عن منطق سياسي جديد وحكم راشد يرعى حقوق الدولة على رعاياها ويجبر الحكومة المركزية على فرض هيبتها هناك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كفاءات على قارعة الطريق أكثر من «200» من الكفاءات الفنية الذين اختارتهم شركة آيات الهندسية ذات الحسب والنسب والقربى من قمة الهرم الحاكم في دولة الجنوب والعاملة في مجال الطرق والحفريات والجيولوجيا وذهبت بهم جنوباً بإغراءات مالية ووظيفية جديدة بعد الانفصال، لكن يبدو أن عدداً كبيراً من هذه الكفاءات السودانية تواجه الآن مصيراً قاسياً وحقوقاً ضائعة بلغت حسب المصادر العليمة أكثر من «21» ملياراً، فشلت كل المحاولات لاستردادها، وظل مديرها في حالة من التسفار المستمر بين جوبا وبعض دول الخليج يعلن الالتزامات ويقطع الوعود لكنها تذهب سراباً ولن يجني منها شيئاً، أما المنتظرون لحقوقهم فقد تدهورت أوضاعهم واقتصادياتهم منذ أكثر من عامين لكن حكومة الجنوب هناك منكفئة على أزماتها وواقعها المأزوم تحاول الخروج من كابوسها. وعدد من هذه الكفاءات الشمالية في دولة الجنوب فرت بجلدها شمالاً تبحث عن معايش أخرى عبر وظائف أخرى، فهي إذن قضية تدق ناقوس الخطر تنتظر تدخل الدولة بأقوى آلياتها وأذرعها ممثلة في جهاز مغتربيها ووزارة عملها ودبلوماسيتها. «آلية».. وحوار.. وتقاطعات ربما ليس بإمكان أي خبير أو عبقري تفكيك مكونات المشهد السياسي الراهن بكل تناقضاته وتقاطعاته ومعطياته. فالمشهد الكلي القائم الآن تتحكم فيه المتغيرات المخيفة والمزعجة.. فالحوار السياسي الذي أقرته رئاسة الجمهورية ووضعت مسؤوليته أمام آلية رئاسية هو الآن يواجه تحديات جسيمة لأن القوى السياسية والحزبية تتجاذب الحديث حول أجندة الحوار ومنطلقاته، كل حسب فهمه وأشواقه الخاصة، جميعهم يبحثون عن ذواتهم في مخرجات الحوار دون أي اعتبار لقضايا كلية. فالمؤتمر الوطني مثلاً في توجهاته العامة هو مع خيار الحوار بلا اشتراطات، أما حزب المهدي فحيناً يحاول القفز خارج القاطرة في غضبه من زمانه وحيناً آخر يرحب بالفكرة ويشكل لها لجنة خاصة تنتج رؤية خاصة، ولكن أكثر حالات حزب الأمة توهاناً هو وقوفه في منتصف الطريق بين الحكومة ورصيفها.. أما جماعة القلعة الحمراء فهم القوى الأكثر قساوة على قضية الحوار خاصة حينما تعلو عند الرفاق قيمة الإسقاط والتفكيك للنظام، لكن يبدو أن الأيام الماضية شهدت بعض التراجعات في موقف الشيوعي حيث ارتضى الحزب أن تكون الشريعة منهاجاً للحكم إذا ارتضت الحكومة بمفاهيمهم كحزب شيوعي، وقد تتفق جماعة البعث مع هذا الفهم. أما أحزاب الحركة الاتحادية بكل فصائلها وأجنحتها بما فيها حزبا مولانا وجلال الدقير فهي ماضية في ذات الطريق وذات النهج الذي رسمه رجال المؤتمر الوطني. ومن بين كل هذه المواقف والتوجهات الحزبية تبرز مجموعات حزبية أخرى تبحث لها عن موطئ قدم في هذا السباق السياسي المحموم، ولكن تبقى القضية في الإجابة عن هذا السؤال المحوري.. هل بإمكان الآلية الرئاسية للحوار أن تستوعب في جوفها كل هذه التناقضات والتقاطعات حتى تخرج بإرادة ورؤية موحدة حول أمهات القضايا السودانية؟