خف الحديث عن الحكومة القومية بل واختفى، ولم تنقل لنا أجهزة الإعلام ما يدل على تطبيق هذا المطلب. والحكومة القومية هي آخر ما تتمناه الأحزاب السياسية، وحين كان الشارع السياسي السوداني يضم عدداً قليلاً من الأحزاب المؤثرة كالأمة، والاتحادي، وحزب الإسلاميين بمختلف مسمياته، والحزب الشيوعي كان الرفض واضحاً لمبدأ الحكومة القومية، بل كان الرفض في الديمقراطية الثالثة لمشاركة الجبهة الإسلامية في الحكم التي انسحبت من التشكيل الوزاري بسبب اعتراض الحزب الاتحادي ودخوله المعارضة الأمر الذي أسقط الحكومة فإذا عجزت ثلاثة أحزاب عن الاتفاق فيما بينها فكيف يا ترى سيتم التوفيق ما بين نيف وسبعين أو ثمانين حزباً سياسياً؟ الأمر الذي يدعم صعوبة تشكيل حكومة قومية واستحالته. ولهذا أسباب عديدة. من هذه الأسباب تلك البدعة السيئة التي ابتدعتها نيفاشا بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير، الأمر الذي حفز مناطق أخرى للمطالبة بذات الحق، وقد أعلن ياسر عرمان ليلة توقيع البروتوكولات الستة أن هذا الأنموذج سيطبق على دارفور والشرق والمناطق الثلاث. ومن هذه الأسباب التمسك بالسلطة من جانب النظام الحاكم، والاهتمام بالسلطة دون غيرها يجعل السلطة منكفية على نفسها وتهمل شؤون المواطنين خارج إطار السلطة، ولهذا النهج من الحكم مساوئ جمة أخطرها ضعف الانتماء للوطن، وهذا ما نلمسه في ظهور النعرات القبلية والعنصرية، وازدادت النعرات الانفصالية وهي لا تعبأ بما يدور في الخرطوم من مشاورات لتشكيل حكومة قومية مستحيلة. من هذه الأسباب، الكم الهائل من الأحزاب الذي لم يشهد له بلد في العالم مثيلاً، وصعوبة التوفيق بينها ناهيك عن الاتفاق فيما بينها، فنشأتها كانت نتيجة خلافات جذرية في أحزابها الأم، فكم حزب خرج مما يسمى بحزب الأمة القومي والاتحادي، وحتى من ذات حزب النظام الحاكم؟ وتعدد الأحزاب بهذه الكثرة ظاهرة مرضية سياسية خطيرة، فتعدد الأحزاب أمر لا يجعل تشكيل حكومة قومية أمراً وارداً، والاختلاف لن يكون في مضمون الحكومة القومية بقدر ما يكون في تشكيلها . وحسب المفهوم الذي يسيطر على المجتمعين لو شكلت الحكومة القومية من خمسين حزباً مثلاً، فلن تكون في نظر بقية الأحزاب التي خرجت من التشكيل الحكومة قومية. وقد حاول النظام الحاكم أول ما حاول في الثلاثين من يونيو 89 أن يكوِّن مجلساً عسكرياً يمثل كل مناطق السودان في محاولة لصبغ الانقلاب العسكري بصبغة قومية في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم «انقلاب عسكري قومي». ولعل الرابح الأوحد من الحكومة القومية هو نظام الحكم ذاته، وقد لمح الترابي لهذا وضرب مثلاً بما حدث لنظام عبود وأفراده. ومن الأسباب الأساسية التي تجعل من الحكومة القومية غير ذات جدوى أن المواطن قد نأى بنفسه عن الأحزاب السياسية وابتعد عنها بما يعرف بالرفض الصامت، فما عاد لها أثر فيه فابتعد وكثرة الأحزاب أكبر دليل على الفراغ السياسي الذي يعيشه المواطن الذي ما عاد يكترث بأطروحات الأحزاب التقليدية، فظهرت هذه الأحزاب الجديدة لا لتعرض بضاعتها السياسية على المواطن، وإنما نكاية في تلك التي انشقت عنها؟ والحكومة، أي حكومة قومية كانت أم ائتلافية أو حتى عسكرية لها هدف تم رسمه قبل قيامها وبرنامج لتنفيذ ذلك الهدف، فما هو هدف الحكومة القومية المقترحة، وهل تم عرضه على الشعب ليوافق عليه أو يرفضه؟ فالشعب بعيد عن كل هذا ونأى بنفسه عن الأحزاب قديمها وحديثها بالرغم من كثرتها التي تشير إلى غثاء السيل المواطن يعيش بأقل من دولارين في اليوم، والقطاع الخاص تكرم برفع الحد الأدنى للإجور إلى «425» جنيهاً أي ما يعادل أقل من أربعين دولاراً، فهل سيفكر هذا المواطن في من يحكمه وهو يعيش بدولارٍ في اليوم، هل سيستقبل ما يبشرونه به من حكومة قومية؟ الراحل نلسون مانديلا حين تولى الحكم شكل حكومة «تكنوقراط» وهذه الحكومة خلقت مليون وظيفة منتجة، أما الحكومة القومية ستخلق وزراء ووزارات غير منتجة وبالمئات ووظائف دستورية جديدة تضاف إلى الآلاف الموجودة الآن فتتضاعف أعداد السيارات الفارهة التي تقف أمام المنازل الدستورية ويتضاعف الصرف الحكومي. وصندوق النقد يطالب بخفض الانفاق الحكومي وفي مفهومه رفع الدعم عن السلع الضرورية للمواطن، ولكنه لا يتحدث عن الوظائف الدستورية التي بلغ عددها الآلاف. فكلما زادت الوظائف الدستورية كلما دفع الشعب الثمن بزيادة في الضرائب وارتفاعاً في أسعار المحروقات والضروريات الحياتية «في وقت يعيش فيه المواطن بأقل من دولارين في اليوم» . وأقولها بصراحة إن الحكومة القومية المقترحة لن تقدم شيئاً يذكر، بل ستكون تحت سيطرة من كانوا يمسكون بزمام الأمور، ولن تبدل أحوال البلاد والعباد. وإذا كنا جادين في مسألة الحكم فلنأخذ من تجربة مانديلا أنموذجاً فتجربته خلقت وقدمت معجزة جعلت مليون عائلة ترفع من متسوى معيشتها في خلال أربع سنوات فقط . الحكومة القومية تخلق وظائف دستورية جديدة ترهق الاقتصاد المرهق أصلاً، ولكن حكومة التكنوقراط تخلق الوظائف الحقيقية المنتجة وليست وظائف التمكين التي يشغلها من لا يحمل المؤهلات، وهذا يشير إلى خسائر جمة تتكبدها المؤسسات الاقتصادية، وقد شاع أن بيع مصانع السكر وارد في الأولويات بحجة أن هذه المصانع خاسرة، وهذا خطأ كبير يتجسد في التخلص من المؤسسات الخاسرة والإبقاء على أولئك الذين تسببوا في الخسران