عملية اختطاف مردخاي هي أحد الأهداف التي أراد جهاز الموساد أن يوصلها للعرب بأن يده طويلة وقادرة على صنع المعجزات، وأن أهدافه مهما كانت عصية فإنها لا تعجزه.. وأن قصة المهندس الذري فانونو مردخاي المثيرة للجدل يشوبها الكثير من الشك في مصداقيتها لأن أحداثها قريبة من صنع الخيال.. وأراد إيصالها للعالم العربي بالذات.. لكن العملية في حد ذاتها عكست وسطرت حادثة تضاف إلى تاريخ الموساد وإلى أجهزة المخابرات الإسرائيلية وعكست مسلكها غير الإنساني في اختطاف الأشخاص من عواصم العالم دون احترام لسيادة الدول أو القانون الدولي.. وتحويل بطل القصة دكتور فانونو إلى شخصية غامضة وقصد من هذا الغموض لارتباط الأمر بأحد أهم أسرار الدولة الصهيونية ألا وهو «مفاعل ديمونة» النووي ونشاطه في تصنيع السلاح النووي المحظور دولياً. مولد وتاريخ ومكان مهده: مولد مردخاي سالومون فانونو بالمملكة المغربية عام «1954م». هاجرت أسرته في أوائل الستينيات من مراكش إلى إسرائيل، وأقامت في أحد أحياء بئر سبع الفقيرة حيث عمل والده سالمون في تجارة الأدوات المنزلية للإنفاق على الأسرة الكبيرة. إتجه فانونو إلى دراسة الفيزياء التي كان يعشقها.. لكنه أمام ظروف الحياة المعيشية الصعبة اضطر في كثير من الأحوال إلى مساعدة أبيه في تجارته بأسواق بئر سبع.. مما أدى إلى رسوبه في السنة الدراسية الأولى بكلية العلوم في جامعة رامات أبيب بتل أبيب.. وعندما قرأ إعلاناً لمركز البحوث الذرية في الصحف يطلب فنيين.. تقدم على الفور على أمل أن يجد وظيفة فيخفف الحمل عن كاهل أبيه.. وسرعان ما اُخضع لاختبارات نجح فيها بجدارة، وفي يناير «1977م» تسلم عمله بعد تحريات أمنية في مفاعل ديمونة الذري في صحراء النقب. تغيرت أفكار فانونو تجاه الدولة الصهيونية عند غزو لبنان عام «1982م» حيث تكشفت له دموية الدولة التي تدعي الديمقراطية وتحول الشاب الصهيوني المتحمس إلى علماني يقرأ كثيراً عن الشيوعية والفلسفة. نائياً بنفسه عن حياة الصخب التي يحياها الشباب من أمثاله بحرية في إسرائيل.. حتى ذكر عنه أنه لم يرتبط بأية علاقة نسائية طوال تلك الحقبة من حياته. فانونو يتنازل عن يهوديته: تعمقت قراءات فانونو في الفلسفة والتاريخ.. ثم التحق أخيراً بقسم الفلسفة في جامعة بئر سبع.. فانخرط في الجماعات اليسارية التي تموج بها الجامعة وتصادق مع العديد من الطلاب الفلسطينيين دون أن يفصح لأحدهم عن حقيقة عمله في مفاعل ديمونة الذري.. شارك في المظاهرات الطلابية التي نادت بإطلاق سراح أحد أساتذته الذي اعتقل لرفضه الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وفيما بعد قيل عن فانونو على لسان أحد أساتذته أنه كان طالباً غريب الأطوار ينتقد بشدة سياسات إسرائيل ويظهر تعاطفاً قوياً مع الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في الأرض التي استولى عليها اليهود بالمؤامرات والمذابح. لكن ملفه الأمني تضمن الكثير من تحولات اليهودي المهاجر من المغرب، لذلك فصل فانونو من عمله بالمفاعل في نوفمبر «1985م» وتسلم مكافأة مادية معقولة عن فترة عمله القصيرة. لكنه لم يهتم لأنه ربما كان يخطط لحياة عملية جديدة في الخارج.. إذ امتنع أن يكمل دراسته بالجامعة للمرة الثانية.. وباع فجأة سيارته وشقته الصغيرة وحمل أمواله ومدخراته في رحلة طويلة إلى أبعد مكان عن إسرائيل.. إلى أستراليا.. حيث استقر في سيدني وبدأ يبحث عن ذاته هناك.. اندمج اليهودي التائه في حياته الجديدة ولفت انتباهه كنيسة سانت جون الأنجليكانية ذات النقوش والزخارف الملفتة للنظر فدخلها متأملاً بالرسوم.. وبعد شهرين خلع فانونو جلدته اليهودية واعتنق المسيحية. فانونو يكشف أسرار المفاعل الذري الإسرائيلي: في أثناء تردد فانونو على الكنيسة التقى بالصحافي الكولومبي أوسكار جاريرو.. الذي كان يهوى الرسم واشترك في زخرفة سور الكنيسة فأشاد فانونو بالرسومات وشجع هذه الموهبة.. هذا الحديث كان عربون صداقة بينهما منذ تلك اللحظة.. تطورت هذه العلاقة بشكل سريع.. مما دفع فانونو في أمسية من الأمسيات أن يكشف سره كإسرائيلي كان يعمل فنياً بمفاعل ديمونة الذري ويحمل عدة صور التقطها بصورة سرية برغم الإجراءات الأمنية ومنع التقاط أي صورة لهذا المفاعل، والصور خطيرة واُخذت من أماكن متحفظ عليها في الداخل، وهي تصور برنامجاًً إسرائيلياً للإنتاج الخاص بالسلاح النووي.. هذه الصور أصابت هوىً عند الصحفي الكولمبي أوسكار جاريرو، وكصحفي يعرف قيمة المعلومات التي أدلى بها صديقه الإسرائيلي.. دهش هذا الصحفي وبدأ بغريزته الصحفية يبحث عن المثير.. واقنع فانونو أن يبيع الصور لإحدى الصحف الكبرى مقابل مبلغ مالي كبير.. فلم يمانع، بل أوكل إليه مهمة إجراء الاتصالات التي يراها وعلى الاتفاق المالي الذي يراه مناسباً.. بدأت اتصالات جاريرو بالصحف الكبرى في الولاياتالمتحدةالأمريكية.. إلا أن هذه الصحف لم تقتنع بقصة هذه الصور.. واعتقدوا أن الأمر مجرد مزحة من هاوٍ لا أكثر.. فاتجه جاريرو إلى بريطانيا.. حيث اتصل بصحيفة الصنداي تايمز وحكى قصة الإسرائيلي الهارب الموثقة بالصورة، فقامت الصحيفة بإرسال أحد محرريرها وهو بتيرهومان إلى سيدني حيث التقى بفانونو وجاريرو ولأنه يحمل شهادة في الفيزياء.. أخضع فانونو لاستجوابٍ مطولٍ عن مفاعل ديمونة ومعامله ومعداته.. ومع إطلاعه على الصور.. اقتنع هومان بحقيقة القصة وتوقع أن تحدث الصحيفة بنشرها للخبر وصوره زلزالاً مدوياً، وأنها ستتيح للصحيفة نشرها في عدة حلقات.. بهذا أقنع هومان فانونو بالسفر معه إلى لندن مقابل خمسين ألف دولار مستبعداً جاريرو من الصفقة ومن السفر معهما. ٭ جاريرو يحمل نسخة أخرى من صور مفاعل ديمونة: كان جاريرو يحمل نسخة أخرى من الصور الخاصة من مفاعل ديمونة فدفعه الغضب من تصرف فانونو والذي أبعده تماماً من الصفقة التي كانت كلها من نواة أفكاره واتصالاته.. فسافر خلف فانونو وهومان إلى لندن.. حيث فكر أن يحدث ربكة لصحيفة الصنداي تايمز باتصاله وعرضه للصور التي كانت معه لصحيفة الصنداي ميرور المنافسة لصحيفة الصنداي تايمز، التي يمتلكها روبرت ماكسويل وهو صديق شخصي لرئيس جهاز الموساد ناعوم أدموني «1982 1989» وروبرت ماكسويل عميل للموساد اُغتيل داخل يخته الخاص لتورطه في قصة سرقة الصاروخ أكسوسيت من شيلي. عرض أدموني على رئيس الوزراء شيمون بيريز «1985 1987» فكرة اغتيال فانونو في لندن. رئيس الوزراء الإسرائيلي رفض بشدة الفكرة رفضاً باتاً حتى لا يدخل مع المرأة الحديدية مارجريت تاتشر رئيسة مجلس وزراء بريطانيا في مطب وقد يؤدي ذلك لأزمة دبلوماسية مع بريطانيا.. طالباً من أدموني أن يضع خطة مضادة تفشل ما تنشره الصنداي تايمز وتظهر عدم مصداقيته.. ثم البحث عن وسيلة اختطاف فانونو وإحضاره إلى إسرائيل لمعاقبته في هذا الجرم الشنيع بحق دولة إسرائيل. ٭ صحيفة الصنداي تايمز تقوي مصداقيتها حول صور المفاعل. لجأت صحيفة الصنداي تايمز إلى الدكتور فرانك بارنبي العالم الذري لاستجواب مردخاي فانونو واستبيان مدى صدقه من عدمه فتحدث مع فانونو عن أقسام ومكونات مفاعل ديمونة وشرح له بالصور الممرات والمعامل واللوحات الخاصة بالتحكم والعدادات وأظهر المفاعل بكامل أقسامه والصور واللوحات التي تحذر من الإشعاع وأجساماً معدنية قال إنها نماذج قنابل بسيطة وألغام تنوي إسرائيل ذرعها في الجولان.. كما شرح للعالم البريطاني الكثير عن عمليات فصل البلوتونيوم ونسب التدفق والبيانات العلمية الأخرى مما دعى العالم الفيزيائي إلى التصديق بكل ما جاء به فانونو والتصريح بإن إسرائيل ربما تمتلك بسهولة ما لا يقل عن مائة قنبلة نووية خلال عشر سنوات فقط.. نتابع إن شاء الله