أحد علماء النفس السوريين «د/ فاخر عاقل» تناول في مقال طريف وقديم، الدلالات السيكلوجية والاخلاقية للاختلاس والغش في المجتمعات العربية. ولكن دعونا قبل أن «نختلس» بعض ملامحها من مقاله الطريف، ان نتناول الذكاء في اكتشاف الجريمة، ولعل المولعون بقصص الكاتبة الروائية العالمية «أغاثا كريستي» يستمتعون لا لذكاء المجرم «بقدر ما هو ذكي فعلاً» في محاولته إخفاء آثار الجريمة، ولكن لذكاء المحقق في حل اللغز، والوصول للمجرم، بل وتضمن الرواية كل الأبعاد والمعينات الذكية. فلولا أن المجرم كان ذكياً حقاً لما كانت الرواية «أغاثا كريستي» التي وصلت رواياتها الثمانين وهي من الثمانين من عمرها، تذكر صديقتها «الليدي إلسابوكر» أن «أغانا» كانت تؤلف قصصها وهي في مغطس الحمام «في البانيو»!! أي أن كل المجرمين الذين خرج بهم خيالها خرجوا من «مغطس الحمام»!! فدوخت العالم بروايات بوليسية ظهر من بعدها تطور فن الإجرام، وتطور أكثر في فنون اكتشاف الغاز الجرائم. لكن في مجتمعاتنا هل يحتاج الاجرام لفنون ليكون الغازاً؟ الغريب ان مسرح الجرائم عندنا دائماً مكشوف للجمهور فيما يسمى: «على عينك يا تاجر». ولنا مثل يقول «المال السايب يغري على السرقة».. ولكن قبل ذلك لا ننسى تحليل الدكتور «فاخر» للمظاهر النفسية ولعلها دوافع متشابهة في معظم المجتمعات العربية ونحن منها يقول الدكتور: هذه ملاحظات اجتماعية سريعة، لا قصد من استعراضها مع القارئ أن أوفيها حقها من البحث والتغليل والعلاج، بقدرما أبغر لفت النظر اليها والتنبيه إلى دلالاتها، ففيها متعة ولها معنى، علاجها واجب والتخلص منها ممكن وهي عدة ملاحظات أولها: { اللافتات في الأماكن العامة: فلاحظ أن بعض الأسماء التي تُعطى للمحال العامة في بلادنا مثلاً: «بقالة الأمانة» وذاك: «معطم الانصاف» وذاك مخزن الصدق.. إلى غير ذلك من الأسماء وأغلب الظن أنك لن تجد «أمانة» ولا «إنصاف» ولا «صدق»!! لكن الذي يهمنا من هذه الأسماء أنها تدل على افتقاد المجتمع لهذه المُثل الاخلاقية في مثل هذه المحال، ولذلك يعمد البعض من افراد المجتمع إلى استعارة هذه المثل واطلاقها على محالهم.. أي أن صاحب بقالة الامانة ادرك ان الناس يفتقدون إلى الأمانة في البقالات ومعاملاتها.. الامانة في تحديد الاسعار، والامانة في المشتريات والوزن وووالخ من ضروب الامانة. ولذلك فقد عمد اطلاق اسم «الأمانة» على محله ايهاماً للناس أو تأكيداً لهم بأن ما يبتغون من امانة متوفر في محله. وقل الشيء نفسه على مطعم الانصاف، وفندق الراحة ومخزن الصدق وغيرها. على ان افتقاد الناس لشيء يعني بحثهم عنه. { أما الملاحظة الثانية فهي :«حلال على الشاطر» وهي عن موقف بعض الناس من الاختلاس والغش وما إليهما، فانت اذا رويت لجمهور من المستمعين قصة موظف اختلس مبلغاً كبيراً من المال، سمعت من يقول لك:«حلال على الشاطر».. واذا تحدثت عن مهرب استطاع ان يهرب بضاعة قام من يتبرع بالقول: «حلال على الشاطر».. واذا حكيت عن موظف لا يداوم على وظيفته نظراً لقرابته مع كبير أو عظيم قيل لك: «حلال على الشاطر»!! واذا نوهت إلى تاجر استطاع ان يعقد صفقة كبيرة ربح منها بالغش ربحاً غير مشروع تحمس احد المستعمين وقال: «حلال على الشاطر» وهكذا هذه مقتطفات من التحليل النفسي للدكتور عن بعض الملاحظات لظواهر الفساد. ونحن في السودان نستبدل عبارة «حلال على الشاطر» ب: «ده زول مقرم».. أو «ملحلح».. او «شيطان».. «واقع من السما سبع مرات».. أو «شفت». هذا لا يعني أن تلك القلة قد افسدت ودمرت الذوق العام للاغلبية الصامتة التي تكره الفساد وتشجبه. ولكن الواقع يقول ان مسرح الجريمة «مكشوف» ودلائل الثراء على «عينك يا تاجر»، ولكن لا حيلة للاغلبية إلا أن تقرأ كل ذلك في الجرائد. فيقول قائل: «واضح ان فلان ده ظهرت عليه آثار الثراء من العدم ومن قبلها كان فقيراً.. معقول بس»؟! فهذا المجرم لا يحتاج لأن يخرج من «مغطس الحمام»!! ولايزال البعض تمتلكهم حالة: كان سرقت اسرق جمل، وكان عشقت اعشق قمر!! والقريب ان بعض الاخبار وصفت عملية التزوير المليارية «بالذكاء»!! كيف يكون هؤلاء اذكياء وقد تم اكتشافهم؟! إن الاذكياء هم الذين لا يكتشفون ابداً ابداً!! ولكن شيئاً ما له صلة بأسرار الفساد وهو «الاسرار» نفسها.. ذلك ان كثيراً مما يتمتع به المسؤول من معلومات وهو حق عام ينبغي ان ينشر ويكون تحت رقابة متعددة واهمها الرأي العام.. ذلك ان كثيرا من أسباب الفساد بسبب ضعف الرقابة وما يظل في طي الكتمان.. إضافة إلى ان «السلطات التقديرية» الممنوحة لبعض المسؤولين لما يعتبر مال عام ايضاً ينبغي ان لا يسند للافراد خصوصاً ونحن في عالم يتمتع بشبكات تقنية متطورة ونظم محاسبية غاية في الدقة والرقابة فالسلطات التقديرية هي «اغراء» و«اغواء» في اعتقادي ان المثل الذي يقول: «الفي ايدو القلم ما بكتب رقبتو شقي».. مثل يحتاج لتصحيح.. ذلك ان «الفي ايدو القلم بكتب رقبتو شقي اذا استثمر قلمه في الحرام.. وما بكتب رقبتو شقي اذا تحلى بالأمانة والصدق والتقوى والورع.. أما النقطة الهامة التي أوردها الدكتور أستاذ علم النفس في مقاله فهي التحايل على مفاهيم الحلال والحرام ومحاولات تطويع الحرام لتحليله وضرب الأمثال لذلك فقال: فالربا حرام، ولكن شراء المحاصيل الزراعية مسبقاً حسب مفهوم البعض وبأسعار تقل عن نصف سعرها الحقيقي حلال!! وكشف المرأة وجهها في حارتها أو بلدها حرام أما كشفها اياه في حارة اخرى او في بلد تسافر اليه فحلال والغش في الوزن حرام، اما الغش في السعر حلال.. وسرقة المال حرام اما سرقة الجهد واستغلال صاحب الحاجة فحلال. ولم يبق للدكتور الا ان يقول: السرقة حرام.. لكن سرقة اموال الدولة حلال!! وهو ينوه لذلك للمفاهيم الخاطئة المتعمدة من البعض بغرض تبرير سرقتهم الحرام. ويمشون مطمئنين بين الناس كأنهم اغترفوا حقاً، ولا يخافون يوم الحساب. و«مال الميري» وبلد أبوك كان خربت شيل ليك فيها شلية» كلها مفاهيم حقاً.. حرام.. حرام.. حراااااام.