تستلزم الخسائر في الأرواح وفي الممتلكات التي يتكبدها المواطنون في خريف كل عام جراء سوء التصريف لمياه الأمطار والسيول والأخطاء التخطيطية في المدن خاصة ولاية الخرطوم التي توسعت وترامت أطرافها، تستلزم الجلوس على الأرض والتفكير بعمق في كيفية تجنيب عاصمة البلاد مواجهة مثل هذه الظروف الراهنة التي أرهقت حكومة الولاية والحكومة الاتحادية، وجعلت المواطن لا يحتمل حكومته مهما فعلت، فقد انحسرت ثقته إلى أدنى درجة متشككاً في المعالجات الإسعافية التي تقوم بها السلطات عقب حلول المأساة. ليس المطلوب اجترار الأسطوانة المألوفة بالحديث عن الاستعدادات قبل الخريف وفتح المصارف وغيرها، وهو حديث يتكرر كل عام، لكن الملح هو التفكير بعمق في حلول نهائية وناجعة لمشكلة تصريف المياه في مدن ولاية الخرطوم وأطرافها، ويجب أن يجتهد العقل الهندسي ومن يعملون في تخطيط المدن في وضع الحلول الممكنة في جعل العاصمة تتخلص من هذا الداء الذي لازمها دون أن تتعافى منه بل يتفاقم كل سنة في موسم الخريف. فعاصمتنا وبحمد الله وفضله منبسطة ومن كل الاتجاهات منحدرة نحو النيل والنيلين الأبيض والأزرق، ولا توجد فيها تعقيدات عمرانية معقدة ومشينة أو معيقة، وشبكة تصريفها المحدودة قديمة وبالية شاخت من عقود، والتوسع العمراني الذي تم خلال الثلاثين سنة أو يزيد لم يراع بشكل دقيق ومحكم التوسع والمحافظة على قنوات ووسائل وطرق تصريف مياه الأمطار، كما أنه في ذات الوقت لا توجد شبكة للصرف الصحي، الأمر الذي يفاقم الحال. كثير من الناس لاحظوا أن الآليات متوفرة بالقدر المعقول ولا يوجد فيها نقص حاد وكبير في أغلب محليات الولاية، وليست المشكلة في وصول المسؤولين ومتابعتهم للأوضاع كما حدث خلال الأيام الفائتة عقب هطول الأمطار الغزيرة واجتياح السيول بعض أجزاء من الولاية، لكن مع توفر هذه الآليات لا يوجد عمل هندسي بكفاءة عالية قبل الخريف ولا معالجة أخطاء العام السابق، وتتجنب السلطات المحلية التعامل الصارم مع ظواهر تراكم الأوساخ في المصارف أو ترك مخلفات المباني وركامها في الطرف الرئيسة في الأحياء وفي مجاري الأمطار والسيول ومنافذ التصريف.. حتى يداهم الجميع الخريف وتقع الخسائر الفادحة، وتتحرك هذه السلطات المحلية وحكومة الولاية بعد فوات الأوان وتكون في الصيف قد ضيعت اللبن!! إن الحل النهائي غالٍ وباهظ التكاليف، فشبكة الصرف الصحي وشبكات تصريف المياه تتطلب مئات الملايين من الدولارات، لكن ذلك لا يمنع أن تصمم من الآن الرؤية الكاملة التي بموجبها تتخلص الولاية من أزمتها المزمنة كل خريف، وفي كل عام يُغاث فيه الناس ويعصرون!! فلو تم بالإمكانات الموجودة تصميم شبكة مصارف بسيطة التكاليف من داخل الأحياء تساعد على تمرير المياه إلى مصارف أكبر ومنا للأنهر، وتسهيل تصريف السيول المندفعة من الاتجاهات المختلفة وفك اختناقها عندما تصل مدن الولاية إلى مصبها النهائي.. لو تم ذلك بصورة عاجلة وعكفت عليها حكومة الولاية من وقت مبكر مستعينة في ذلك بالمسح الجوي والخرائط الكنتورية الحديثة ومساعدة جهات كثيرة في الدولة مثل القوات المسلحة «سلاح المهندسين» والشرطة ومصلحة المساحة وكليات الهندسة في الجامعات السودانية والخبراء في التخطيط العمراني، لتخلصنا من هذا الصداع المزمن. إذا كانت القوات المسلحة عقب هجوم حركة خليل على أم درمان في مايو 2008م، قد حفرت أطول خندق في تاريخ البلاد حول ولاية الخرطوم خاصة من اتجاه الغرب بإمكانات محدودة، فكيف لا يمكن فعل الشيء ذاته لمصارف الخريف الرئيسة في ولاية الخرطوم وهي تحتاج لجهد أقل ووقت يسير.. ويمكن أن تطلق الحكومة الاتحادية أو حكومة الولاية عقب هذا الخريف مباشرة أكبر نفير شعبي للمساهمة في تقليل خسائر الأمطار بتهيئة الوضع لفتح المصارف ومعالجة العيوب التي صاحبت تخطيط المدن والمخططات السكنية الجديدة وإزالة كل معيقات فتح ممرات عبور مياه الخريف. ومن ما يحزن بالفعل في كل أحياء الولاية وحتى الأحياء الراقية مثل الرياض والطائف والعمارات وكافوري والمنشية والأحياء العريقة في وسط المدن الثلاث، أنها تعيش حالة سيئة للغاية في شوارعها وميادينها وساحاتها التي امتلأت بمياه الأمطار والطين، مما يعني أن عطباً تخطيطياً لا بد من علاجه، وأن هناك حلاً غائباً يجب استحضاره. ولا مناص من عقد السمنارات وورش العمل والحلقات المتخصصة بمشاركة كل الجهات ذات الصلة حتى نجعل عاصمتنا عاصمة حضارية.. بل عاصمة تستطيع أن تواجه الأزمات الخانقة دون أن تغرق في شبر ماء. عبد المحمود الوداعة امتدت يد المنون وأنشبت المنية أظفارها، واختطفت خلال عطلة العيد زميلنا عبد المحمود الوداعة، الذي عمل معنا لسنوات مدققاً لغوياً ومصححاً بالصحيفة، وهو رجل نادر، فيه تواضع العلماء وحرص العارف المثابر، فكان أول من يدخل مقر الصحيفة صباحاً وآخر من يخرج منها، وقدكان دقيقاً في عمله محباً لمهنته لا تسمع له صوتاً ولا جلبة، ولا تحس وهو معك أنك أمام بحر واسع في مجال اللغة العربية وطلاسمها وأسرارها، ولا يفارق مقر الصحيفة إلا لماماً، فإما أن تجده في المسجد مصلياً أو في حوار جاد مع أحد الزملاء حول مسألة نحوية أو لغوية يقطع فيها الشك باليقين.. وعمل بعد «الإنتباهة» في عدة صحف لكنه ظل موصولاً بزملائه وصحيفته التي عمل فيها وأسهم في تطويرها والارتقاء بها.. رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان من المشهود لهم بمعرفة الله وخشيته.. نسأل الله له الجنة ومقعد صدق عند مليك مقتدر.