سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رداً على الافتراءات على الجعليين والقبائل العربية المسلمة في وسط وشمال السودان وقائع الجعليين.. حقاً كانت منصات قيم وفخر وشرف «8 - 18»..د. عثمان السيد إبراهيم فرح
ذكرنا في الحلقة السابقة أن من أهم الدوافع لكتابة هذه السلسلة من المقالات أمر يتعلق ببذل النفس دون العرض الذي هو من أصل شؤون الدين، وأنها تحوي ردوداً موثقة على باديِّيَّ الرأي الذين لا همة لهم والذين لا وعي لهم عما يترب على ما يفترون من تجريح ومن إساءة السوْئَي لأكبر شريحة في المجتمع السوداني، وكان آخر تلك الافتراءات مقالة الكاتب طارق فتح الرحمن محمد بصحيفة التيار بتاريخ 8/6/2014 بعنوان «عفواً أستاذ سبدرات... لم تكن يوماً واقعة المتمة منصة فخر». وذكرنا ما كان من مشاركة الجعليين في إنهاء العهد المسيحي في السودان في بداية القرن السادس عشر الميلادي، ثم ما كان من مناهضة المك نمر للغزو التركي وأنه لم يكن له خيار إلا الذود عن العرض، أو القبول بالذل والخنا والعار. فكان ما كان من واقعة شندي واختيار المك نمر ما ارتأى حينذاك من إستراتيجية مكَّنته من الانتصار التام على إسماعيل باشا وجيشه الذي كان يفوقه بالأسلحة النارية والعدة والعتاد. وأوردنا تحليلاً لواقعة شندي من منظور القيم والأخلاق. ثم تحدثنا عن حملات الدفتردار الانتقامية الدموية التي عَهِدَ محمد علي بتنفيذها إلى صهره محمد بك الدفتردار، الذي عاث خراباً في ربوع كردفان إلى أن بلغ الأبيض. ثم واصل غاراته على كل مناطق الجعليين بين ملتقى النيلين وبربر نهباً وتمثيلاً بشعاً بأهلها، وإشعال النيران فيها. وتحدثنا عن تراجع المك نمر إلى أرض البطانة وما دار فيها من معارك شرسة بينه وبين الأتراك إلى أن استقر به المطاف في بلاد الحبشة حيث أسس مدينة المتمة الحبشية. ثم أوردنا موجزًا لزيارة محمد علي باشا للسودان ثم هُبُوب الثورة المهدية ونصرة الجعليين لها وما كان لهم من قدحٍ معلى في تثبيت أقدامها، وتطرقنا في إيجاز لما حدث بعد وفاة الإمام المهدي للجعليين، وعما حاق ببعض زعمائهم وزعماء عدد من القبائل في أواسط السودان وبخلق كثيرٍ من نكبات في الأنفس والأموال. ثم ذكرنا واقعة المتمة وأسباب صمود أهلها في وجه جيش الخليفة وأسماء من استشهدوا فيها. واقعة المتمة (يوم الكتلة) كانت تلك الواقعة في يوم من صيف حرور، يوم الخميس الأول من يوليو من سنة 1897، قاوم فيه الجعليون في معركة غير متكافئة جيشاً كبيراً، بدى من واقع الأحداث أنه كان يجهل أهم تقاليد العروبة وتعاليم الإسلام في الدفاع عن النفس وعن العرض، فأبيد منهم أكثر من ألفين (ويقال نحوا من خمسة آلاف) من الرجال والنساء والأطفال في ضحى يوم واحد، ومقاتلوهم عزل إلاّ من السيوف ومن بضع بنادق عتيقة. وقد استحر القتل في ذلك اليوم في بشاعة تضاهي حملات الدفتردار، (التي لم يعرف فيها على بشاعتها انتهاك العروض)، بل وتضاهي غزو التتار لبغداد في القرن السابع الهجري. وكان الجعليون، كما ذكرنا عرضاً من قبل، قد سلموا أسلحتهم التي غنموها من بربر وانتصروا بها في معركة «أبو طليح» سلموها للخليفة عبد الله على مضض فكان أن قتلوا بها. وبشائع ذلك اليوم المشؤوم كانت أكثر من أن تحصي، ولديَّ توثيق أكيد عن شخصيات يعرفها بل سمع منها، ويشهد بما نقول، بعض من هم أحياء بيننا اليوم. فقد وثقت، وأنا طالب في المدرسة الثانوية (19511955)، وحتى السنة الثانية من جامعة الخرطوم التي غادرتها مبتعثاً في عام 1957، من وزارة التربية والتعليم لأكمل تعليمي العالي بجامعة لندن، وثقت تفاصيلَ كثيرة عن تلك الأحداث الفظيعة عن جدتي لأبي السيدة فاطمة بنت المك حمد ود المك بشير ود عقيد. وكانت تلك الجدة زوجة الأمير عبد الله ود سعد إلى حين واقعة المتمة التي استشهد فيها هو وشقيقها أحمد ود المك حمد ود المك بشير ود عقيد (وأحمد هذا هو ابن عم جد السيد الزبير أحمد الحسن وزير المالية الأسبق)، وفيما بعد تزوجها إبراهيم بيك على عادة رعاية الأرامل وأنجب منها والد كاتب هذه المقالات في عام 1908، وكان شقيقها أحمد ود حمد من أشد فرسان الجعليين ضراوة وإقداماً. وكان للسيدة فاطمة من الأمير عبد الله ود سعد أبناء منهم الضابط أحمد أفندي عبد الله والد اللواء محيي الدين أحمد عبد الله، وبنتين إحداهما والدة السيد محمد الحبيب بابكر العمدة الذي لديه كم هائل من التوثيق عن أحداث واقعة المتمة وعن تاريخ الجعليين وآدابهم وأشعارهم، وله كثير الشكر على مَدِّي بقدر وافر من المعلومات الموثقة مما ورد ذكره في هذه السلسلة من المقالات. وقد توفيت السيدة فاطمة وهي في كامل وعيها عام 1961. كان آخر عهدي بالسيدة فاطمة في سبتمبر عام 1959 حينما قدمت من لندن في العطلة الصيفية للجامعة، وهي الأيام نفسها التي توفي فيها عمي ناظر الجعليين حاج محمد إبراهيم فرح. ولا أنسى أبداً ما كانت تكرره علينا من القول، على مر السنين وبحرقة بالغة لم تنتهِ مرارتها أبداً، عن زوجها الأمير عبد الله ود سعد، من أن الخليفة عبد الله طلب منه مشافهة ما تقدم ذكره عن إخلاء المتمة من الرجال وترك النساء ورائهم لخدمة الجيش ومشاركة من أراد من إفراده في عروضهن!!! مما حدا بالأمير عبد الله على مغادرة أمدرمان والإسراع بالحضور للمتمة للاستعداد للذود عن العرض. لم يكن عبد الله وأكابر الجعليين ليقدموا على هذه المواجهة المميتة لولا هذا الطلب المشين من الخليفة. وما كان لامرأة بهذا القدر الجليل إلاَّ أن تقول الحق وهي من شهدت أهوال تلك الواقعة وكان الموت نصب عينيها والقتلى من النساء والأطفال والشيوخ متناثرين في كل جانب من بلدة المتمة، وهي من كُلِمَتْ في زوجها وفُجٍعَتْ في أخيها وكثيرٍ من أهلها. والحقيقة أن الخليفة على ذكائه المعروف ودهائه المعهود كان نهباً للوشاة، وسنذكر عما قليل قصة واحد من اثنين من الواشيين الذَيْن كانت وشايتهما السبب الرئيس في القطيعة بين الخليفة والأمير عبد الله ود سعد مما أفضى لاحقاً إلى كارثة المتمة. وكان أحد الواشيين غيوراً من الأمير عبد الله بسبب إحن قبلية قديمة وأطماع في زعامة الجعليين. وذكر الشيخ الفحل الفكي الطاهر في كتابه (تاريخ وأصول العرب بالسودان)، وهو ممن عاصر في صباه الخليفة عبد الله في أمدرمان حيث كان صبياً في معية والده، كتب: «لم تقم المتمة أمام الجيش ضحوة لأن العدد قليل ولسرعة المدة ما تجمعت القبيلة، وقالوا لم يبرح موقف القتال رجل ولا صبي بالغ، وكان عدد المقتولين يقارب خمسة آلاف إنسان. وبعد أن انتهت المعركة جاء الأمير محمود فوقف على القتلى وأمر بقطع رأس الأمير عبد الله ولد سعد ونزل البحر، نزل في بيت عبد الله ود سعد الذي على شاطئ البحر في الجنينة نخل المك بشير ود عقيد. «طلب الأمير محمود ولد أحمد من بعض مرافقيه جمع النساء، وقال لهم اجتهدوا واجمعوا كل النسوان وإذا إنسان ماسك مرة أخبروه بأمري فإن رفض وأبى أضربوه بالرصاص فتوجهوا لجمع النساء. فلما أحضر المعنيون النساء، أمر بعمل زريبة تحت النخل فجمع فيها عموم النساء بدون تخصيص وعمل للنساء مرتب حب يصرف بواسطة عبد الرحمن الكرنكي، وتم حفظ النساء حتى جاءت المراكب فأشرف الكرنكي على شحنهن وإرسالهن إلى أم درمان». ومن طرائف ما روي يوم تلك الواقعة «أن عبد الرحمن الكرنكي، أحد رجال المتمة (وهو الجد الأكبر للكاتب الأديب عبد المحمود نور الدائم الكرنكي)، كان رجلاً واسع الرأي له فكر وتدبير فلما رأى أن الناس قتلوا (ويقال إنه كان أعزلاً من السلاح) ذهب إلى سجن عبد الله ولد سعد ووجد شعبة فعملها في رقبته وربطها وربط يده اليمنى فلما جاء الأنصار قال (يا أصحاب المهدي الحمد لله ربنا خلصني من الكافر عبد الله ولد سعد بمجيئكم) فأخذوه وشعبته وذهبوا به إلى الأمير محمود فقال لهم فكوه وأحضره أمامه.... وبعد حوار وجيز قبل قصته وجعله أميناً على الأسرى وكان ذلك لطفاً من الله إذ كان له الفضل في حسن تدبير أمر الأسرى من النساء والأطفال». انتهى (الفحل، تاريخ وأصول العرب بالسودان). وكان الأمير محمود ود أحمد من أقرباء الخليفة ويقول في ذلك المؤرخ السوداني الكبير الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم: «وإذا اختار الخليفة أمراءه وعماله الكبار من أقربائه وقبيلته فإننا لا نحسب ذلك جرماً لأنه وضع الولاة حيث إطمأن إلى الولاء والثقة والحكام يفعلون ذلك عامة ويعتمدون على العصبية سواء كانت قبلية أو أسرية أو عقدية، والخليفة ليس استثناء، وهو يقود بلداً كبيراً واسعاً ويلتزم بعقد ديني غلب عليه الكثيرون ومكامن الخطر عليه كان كثيراً. ولكن قد يؤخذ عليه المضي في ذلك في وقت الشدة والخطر. وأخطر ما فعله أنه أعطى قيادة الجيش الذي وجهه لملاقاة جيش كتشنر في عطبرة لمحمود ود أحمد إذ كان هذا صغير السن وضعيفاً في مستواه القيادي وقد تردد كثيراً في اتخاذ القرار ورفع كل أمر إلى الخليفة وأقلقه بفيض ما كتب. ولم يسبق لمحمود أن حارب من قبل جيشاً نظامياً ولم يعهد الحرب في بلاد النيل. وكان في قيادته من التعايشة من هو خير منه وأولى بالقيادة». ونواصل في الحلقة التالية ونوثق لمزيد من مشاهد واقعة المتمة.