أستأنف معكم حديثي، في موازين بعض القاصرين عن درك حقيقة التشريع وهو صوت لوم واللوم عشم لأن فيهم أصدقاء أعتز بصداقتهم رغم اختلافي مع طرحهم والاختلاف في الرأي بقدر ما فيه من قسوة ونقد مرغوب في الدين وهو نقد وقسوة ظاهرية تنطويان على المحبة والصفح لأن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه كان يقول (أحب من يهدي إليَّ عيوبي) ولكن هذا لا يمنع أن نثني عليهم عندما يكون الحق في جانبهم فأنا مثلاً أعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تجديدية مثل محاولات وتجديد الدعوة في مجالات الإصلاح كولي اللَّه الدهلوي، والإمام الشوكاني، والسنوسي والمهدي والأفغاني ومدرسته، والكواكبي، وابن باديس مروراً بالحركات الإسلامية الحديثة، ومالك بن نبي وتقي الدين النبهاني، والمودودي وسيد قطب وآخرين ولكن ليس معناه أن نأخذ كل ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب دون تمحيص. وما خالف السُّنة لا أوافقهم عليه. فالنقد يأتي في ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر. وهو كثير وهم لم يخالفوهم فحسب بل خالفوا حتى شيوخهم الحاليين اليوم وقد قال شيخ (الهدية) في حوار مشهور رحمه اللَّه (إنهم لا يذمون شيوخ الصوفية ولكن عندما يجيئهم شخص فقط يبينون له مبادئ دعوتهم). ولكن إذا قرأت مجموعة (كتاب التوحيد) كما قرأته أنا وجدت إن كلام شيخ الهديَّة بعيدٌ عن الواقع. وإن كل دعاتهم يهاجمون شيوخ الصوفية بالحق وبالباطل ويسخرون منهم حتى من الذين أفضوا إلى ما قدموا. وهذا لا يجوز شرعاً ولا سياسة لأنه لا يؤذي الميت فقط بل يتعدى للأحياء، وإلى أسرته وتلاميذه وأهل بيته وهذا ما جعلني أتطرق للتعقيب على الأستاذ أيوب صديق في «3» حلقات حسبت بأنني بهذا التعقيب أسدلت الستار على مناقشة مشوهة انبعثت خارج الذات بعيداً عن جدليات الكلام المجرد. فإذا الدكتور عارف لا يزال يعزف على هذه الإسطوانة المشروخة وهو ما حرضني على العودة للرد. بعد أن اتصل عليَّ أحدهم ونبهني أن الموضوع عاد لبساط البحث من جديد. وأرى أن تنحصر مسؤوليتنا الصحفية المتخصصة في هذه المرحلة إلى منطلقات العلوم الاجتماعية إسلامياً فهي في حاجة إلى توضيح أهدافها ووظيفتها بشكل عام لنتمكن من صياغتها وربطها بالمشكلات اليومية التي تواجه المسلمين اليوم بعيداً عن جدليات الكلام الذي لا يجدي. ومن طرائف المفارقات، أن كتاب التوحيد الذي أشرنا إليه. لم يصدمني وحدي ولكنه تعداني إلى موسكو؟! صدق أو لا تصدق؟! فقد أوردت مجلة نيوزويكو الأمريكية في مقال بقلم فرانك براون نقتطف منه الفقرة التالية: (ويبدو أن المحاكم الروسية متواطئة مع الحملة وهو يقصد أن النقاد حملوا عصيهم على الفنانين والموسيقيين والكتاب الذين يعتبرون أعمالهم فاسدة فقال: ففي شهر أبريل قامت محكمة في موسكو بحظر كتاب التوحيد وهو مرجع إسلامي من القرن ال «18» بحجة أنه يدعو إلى التطرف الوهابي هكذا قال بنص عبارته وأضاف: يقول أحد مستشاري الكرملين للشؤون الدينية وقع في الجانب الخاطئ بين إيجاد معادلة بين حرية التعبير ومسألة الأمن القومي وقد تعهد أحد الزعماء الأرثوذوكس في البرلمان الكساندر شويف من حزب رودينا القومي بالضغط على قانون يجعل من الإساءة أو عدم احترام الديانات التقليدية الروسية جريمة). ومن المفارقة أن شويف هذا يعتَبر من المنشقين خلال العهد السوفيتي وهو الآن عضو في لجنة بعث الأخلاق لوطن الآباء؟! ما علينا نعود إلى حديثنا المعروف عن الصوفية أنهم قوم لا يتكلمون بلسان عموم الخلق ولا يخوضون فيما يخوض فيه الناس من مسائل علم الظاهر وإنما يتكلمون بلسان الرمز والإشارة إما ضناً بما يقولون على من ليس أهلاً له، وإما لأن لغة العموم لا تفي بالتعبير عن معانيهم وما يحسونه في أذواقهم ومواجدهم وأما ما يرمزون إليه فحقائق العلم الباطن الذي يتلقونه وراثة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. هذه الحقائق لا يستقل بفهمها عقل ولا بالتعبير عنها لغة وهذان أمران كافيان في تفسير الصعوبات التي تعترض سبيل الباحث في فهم معاني الصوفية ومراميهم لذا كان الحذر ألزم ما يلزم الناظر في أقوالهم حين يحللها أو يحكم عليها. وكثيراً ما زالت أقدام الباحثين في أساليب القوم فصرفوها إلى غير معانيها أو حملوها ما لا تحتمل أو أخذوا ظاهرها حيث لا يراد هذا الظاهر. وهذه مسألة تنبه إليها القدماء وحذروا من الوقوع فيها ونصحوا الناس طلباً للسلامة وصوناً للصوفية من أن يتجنى عليهم من ليس منهم أن يكفوا عن قراءة كُتُبهم أو يخوضوا في أقوالهم. والأمثلة على ذلك كثيرة. ذكر الشيخ عبد اللَّه بن سعد اليافعي اليمني أن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ابن عربي ويشرحه فلما حضرته الوفاة نهى عن مطالعته وقال إنكم لا تفهمون معاني كلامه. وذكر الشعراني إن الشيخ عز الدين عبد السلام كان يقول: ما وقع الإنكار من بعضهم على الشيخ ابن عربي إلا رفقاً بضعفاء الفقهاء الذين ليس لهم نصيب تام في أحوال الفقراء خوفاً من أن يفهموا من كلام الشيخ أمراً لا يوافق الشرع فيضلوا. ولو أنهم صحبوا الفقراء لعرفوا مصطلحهم وأمنوا من مخالفة الشريعة وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني المخزومي وهو من المدافعين عن محيي الدين بن عربي إياكم والإنكار على شيء من كلام الشيخ محيي الدين فإنه رحمه اللَّه لما خاض في بحار المعرفة وتحقيق الحقائق في أواخر عمره عبر في الفصوص والفتوحات والتنزلات الموصلية وفي غيرها بما لا يخفى على من هو في درجته من أهل الإشارات ثم جاء من بعده قومٌ عُميٌ عن طريقته فغلطوه في ذلك بل كفروه بتلك العبارات ولم يكن عندهم معرفة باصطلاحه ولا سألوا من يسلك بهم إلى إيضاحه ذلك إن كلام الشيخ رضي اللَّه عنه تحته رموز وإشارات وحذف وإضافات هي في علمه وعلم أمثاله معلومة وعند غيرهم من الجهال مجهولة. وقال الشيخ ابن عربي: عدل أصحابنا إلى الإشارة كما عدلت مريم عليها السلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة، فكلامهم رضي اللَّه عنهم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إشارات وإن كان في حقيقته تفسيراً لمعانيه النافعة. فلم تحتم مريم عن نفسها لئلا يزداد أهل الإفك في اتهامها وضررها. وقد انتفع من هذا ذو النون المصري في محنته مع المتوكل بمثل هذا فقال: لما حُملتُ إلى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيداً فمر بي رجل متزر بمنديل مصري معتم بمنديل بيده كيزان خزف وزجاج مخروط. فسألتُ: هذا ساقي السلطان؟ فقيل لي: لا بل ساقي العامة. فأومتُ إليه: اسقني. فتقدم إليّ فشممتُ من الكوز رائحة المسك فقلت لمن معي: أدفع إليه ديناراً فأعطاه فأبى أن يأخذه وقال لي: لا آخذ شيئاً فقلت: ولم؟ قال: أنت أسير وليس من المروءة الأخذ من الأسير. فالتفتُ فإذا امرأة زمنة (الزمانة العاهة). أي مبتلية بعاهة في كوخ يتصدق عليها. فقلت لها: أنا مظلوم قالت: فأقبل الآن مني: إذا دخلت على هذا الرجل فلا تَهابَهُ، ولا ترى إنه فوقك فإنكما مخلوقان من نطفة واحدة، ومن طينة واحدة فقير إلى من أنت إليه فقير، ولا تحتج عن نفسك محقاً كنت أو متهماً. قلت: ولِمَ؟ قالت: إهبته سُلِّط عليك، وإن احتججت عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالاً، لأنك تباهت اللَّه تعالى، فيما يعلمه منك، وإن كنت بريئاً فأدع اللَّه تعالى ينتصر لك ولا تنتصر لنفسك فيكلك إليها. قال ذو النون: فلما دخلتُ عليه سلَّمتُ بالخلافة. فقال: ما تقول فيما قيل فيك؟ فسكت. قال وزيره: هو عندي حقيق بما قيل فيه. قال: لِمَ لم تتكلم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن قلت: لا أكذبت المسلمين فيما قالوا، وإن قلت: نعم أكذبت نفسي بشيء لا يعلمه اللَّه مني فأفعل ما ترى فإني غير منتصر لنفسي. فقال أمير المؤمنين: هذا رجل برئٌ مما قيل فيه. ثم قال: عظنا عفاك اللَّه... إلخ. وفي ختام الرواية قال ذو النون فخلى عني وخرجت إلى العجوز فقلت لها: جزاك اللَّه عني خيراً. قد امتثلتُ ما أمرت به فمن أين لك هذا؟ قَالت: من حديث الهدهد ما خاطب به سليمان بن داؤد عليهما السلام.. انتهى. فأنظر ما أعجب هذا وما أحسن العلم. فإن الهدهد لما غاب عن سليمان تلقته الطيور وهو عائد وقالت له: توعدك رسول اللَّه. فقال: أو ما استثنى رسول اللَّه؟ قالوا بل قال: أو ليأتيني بعذر مبين. فلما أتى سليمان: قال: ما غيبك عن مسيري؟ فلم يحتج عن نفسه. بل فاجأ سليمان بقوله: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. قال تعالى لهذه الحيوانات من الطيور (أمم أمثالكم) في قوله عز وجل: (ما من طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) وهي تتجاوز أحياناً فطنة الإنسان في حسن التصرف. كما روي أن العصفور قال لزوجته: حين راودها عن نفسها لقد بلغ بي من حبي لك أن لو قلت لي أن أهدم هذه القبة على سليمان لهدمتها لك فأرسل سليمان خلفه وقال: ما حملك على هذا القول الذي تعجز عنه؟ فقال: مهلاً يا نبي اللَّه إن المحبين إنما يتكلمون بلسان المحبة والعشق لا بلسان العلم والعقل فضحك سليمان ولم يعاقبه. قلت: وفي هذا عذر عظيم لنحو سيدي عمر بن الفارض الملقب بسلطان العاشقين واضرابه في تغزلاتهم فلا ينبغي إقامة موازين أهل العقول الكونية عليهم فأفهم وسلم تسلم. وقد قال الركابي وهو ينكر على المتصوفة رؤيتهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقظة. وهذا خطأ فاحش. فقد أخرج البخاري في كتاب التعبير باب من رأى النبي في المنام حديث رقم «6993» في الجزء الثالث من جامعه الصحيح عن الزهزي قال حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) قال أبو عبد اللَّه البخاري قال ابن سيرين: (إذا رآه في صورته) لئلا يدعي جاهل أن ذلك يوم القيامة وروى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي عليه السلام يقول: (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني) وفي رواية أخرى لا يتراي بي (أي لا يتمثل بي) وفي لفظ مسلم لا ينبغي أن يتمثل بصورتي.