شهادتي في هذا الرجل مجروحة بكل تأكيد فهو عمي، ولكنني إنما أورد ما شهد به الذين عاصروه، فقد رحل عن هذه الدنيا في آخر عام 1960م ولكن مازالت ذكراه باقية وكأنما كان الشاعر يعنيه بقوله: عَمَّتْ مُصِيبَتُهُ فَعَمَّ هَلاكُهُ فَالنَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ مَأْجُورُ رَدَّتْ صَنَائِعُهُ إِلَيْهِ حَيَاتَهُ فكَأَنَّهُ مِنْ نَشْرِهَا مَنْشُورُ إذ لم يكن فقط شيخ عرب صاحب سلطة وإنما كان رجلاً مميزاً ومتميزاً في كل صفاته وأحواله؛ فإذا دار الحديث عن الحكمة لقلنا إنه قد أوتي منها حظاً عظيماً، كما عرف بالذكاء والفطنة وفصل الخطاب، إذ لم يكن تفوت عليه شاردة ولا واردة ولم يكن يترك الأمور للصدف بل كان يخطط لكل شيء بدقة وحصافة تفوق الوصف، أو بمعنى آخر، كما قال عنه والدنا وشقيقه الأصغر أنه كان سابقاً لأوانه. لقد كان، رحمه الله، مفاوضاً بارعاً وقاضياً منصفاً وعادلاً يحكم بين الناس بالقسط ويرد الحقوق إلى أهلها، وفي ذات الوقت يدرك المهمة الموكلة إليه تماماً بصفته ناظراً لمحكمة أهلية يناط بها مراعاة علائق كثيرة بين الناس، ولذلك لم يكن يلجأ لتطبيق القانون إلا في أضيق نطاق، إذ كان ديدنه الصلح والإصلاح بين الناس حفاظاً على لحمة المجتمع وسداته، ما لم تكن ملابسات القضية تستدعي غير ذلك من التصرف النظامي، فحينها يضع الأمور في نصابها كما تشهد بذلك دفاتر محكمة دميرة وسجلات الأحكام الإدارية في مركز بارا، سيما وهو الذي رفع علم السودان عند جلاء المستعمر عن ذلك الموقع. ولد عبده عمر قش في مطلع القرن المنصرم لأب كان زعيماً قبلياً معروفاً في دار حامد، وقائداً من قواد المهدية تحت إمرة أمبدة ود سيماوي، ولذلك نشأ عبده عمر قش متأثراً بتلك البيئة، الأمر الذي جعله يضع لنفسه طريقة متفردة للتعامل مع الأحداث بكل حنكة وشجاعة وثبات منقطع النظير، فلم تكن تلين له قناة ولا يخاف في الحق لومة لائم مهما كان الموقف أو الشخص الذي يتعامل معه. ولقد كان مهاباً تخشاه الخاصة والعامة، سيما أنه فارس لا يشق له غبار، وقد حباه الله بقدر من فراسة المؤمن التي لا تخطئ أبداً كما شهدت بذلك الأحداث التي تروى عنه، ولكن مع هذه الهيبة فقد كان محبوباً وسط أهله وعشيرته ورصفائه من زعماء القبائل الذين كان يتبادل معهم الهدايا من أصائل الخيل والجمال العربية، ولذلك فجعت القبائل برحيله في ذلك الوقت المبكر من العمر وكأني بالمعزين فيه يرددون قول الشاعر: فما كان قيس هلكهُ هلك واحد ٭٭ ولكنه بنيان قوم تهدما أما أمه فهي زينب بت بابكر من الضباينة، جاء والدها من منطقة بتري وقد كان يعمل بالتجارة، واستقر به الحال في دار الريح. كانت جدتنا زينب امرأة حازمة صارمة نشّأت أبناءها على الحزم والعزم، إذ لم تكن تتهاون في إكسابهم مكارم الأخلاق، ولذلك حرصت على تعليمهم في مسيد الفكي الناير، وعندما بلغوا سن الشباب أوكلت أمرهم إلى شقيقهم الأكبر عيسى عمر قش ذلكم الفارس المغوار، فعلمهم ركوب الخيل والفروسية وما يتعلق بذلك من استخدام السلاح وغيره، ثم من بعد وفرت لهم نخبة من الحكماء من أمثال جدنا محمد شلاع ليكون في معيتهم في حلهم وترحالهم، فتعلموا منه الحكمة وفنون إدارة القبيلة، ولذلك عندما آل الأمر إلى الشيخ عبده في عام 1927م وهو يومئذٍ شاب في مقتبل العمر لم يجد صعوبة في قيادة القبيلة وسار بها سيرة حسنة مازالت مثاراً لإعجاب كثير من الناس، فقد رسّم حدودها ووضع لها مواثيق وأعرافاً مشهودة مع كثير مع القبائل المجاورة. كان عبده محباً للعلم والعلماء يغدق عليهم العطاء ويقدرهم ويتدارس معهم الفقه والتاريخ والأدب، وقد اقتنى مكتبة كبيرة جلب لها الكتب من مصر والحجاز، وكانت له علاقات مع كبار رجالات الدولة من كافة الأحزاب والطوائف من أمثال محمد داؤود الخليفة والأزهري ومشايخ الطرق الصوفية. وشخصياً ورثت عنه كتاب «جواهر الأدب» للسيد أحمد الهاشمي وقد كتب عليه بخط يده في عام 1959م: إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع وكأنه بذلك قد توقع رحيله عن دنيانا تاركاً ثلمة لم تسد بعد في مسيرة المنطقة برمتها. ومع هذا العلم والحزم، كان لعبده علاقات بكثير من الشعراء الذين مدحوه بشعر جميل، ومن هؤلاء الحكامة التاية بت زمل التي تقول فيه: بيتك علم أم رخام وسيفك برق الضلام إنت يا البرزم سقيْ الأسهام أما صديقه وشاعره علي ود جراد فيقول فيه: إنت أبداً ما أنذكرت بخيل وعمرك كلو في الشكرات مقضى سبيل تمساح لجة الكدرو الحجَّر منابع النيل مارق برا ميلين في الصقيعة بشيل ألا رحم الله أبا الجاز فقد كان علماً على رأسه نار، حاكماً وعالماً وزعيماً محنّكاً يزن الأمور بميزان الحكمة والعدل.