الشفق بلونه الأحمر الغامق يأذن بقرب مجيء الليل.. والقرية عندما يرخي سدوله تنشط حركتها بصورة مفاجئة.. والرجال يعودون إلى بيوتهم على ظهور الحمير وبعضهم راجلين بعد قضاء يوم كامل في العمل.. وعلى أجسامهم المنهكة يرتدون ملابس متربة تدل على أنهم كانوا يؤدون مهاماً شاقة.. هي مهام شاقة حقاً طالما هم كانوا يفلحون الأرض بوسائل بدائية.. وغالباً ما يحملون معهم أثناء عودتهم إلى القرية بعض ما تجود به مزارعهم لاطعام حيواناتهم ولكن في الغالب الأعم تمنع الآفات أسرهم من أن يكون لهم نصيب منها. وبالرغم من أن الحاج عبد اللطيف تجاوز الستين من العمر فمازال يواصل عمله في مزرعته بهمة ونشاط كما لو كان شاباً وعندما يعود الى منزله بعد المغيب يكون محملاً بكمية من الحشائش لحيواناته الرابضة في الزريبة وهي ثلاث بقرات وخمسة رؤوس من الضأن والماعز وهو يحرص على الاهتمام بها كثيرا لأنها تعينه على مصاعب الحياة المعيشية بما تجود عليه باللبن الذي يكفي أسرته فلا تكون له حاجة للتعامل مع باعة اللبن المتجولين على ظهور الحمير فهم يبيعون بأسعار غالية وأحياناً يكون لبنهم مغشوشاً بالماء. وفي المساء تقوم زوجته صفية بت الفكي بوضع العنقريب الذي ينام عليه الى جوار الزريبة ليكون قريباً من حيواناته فلا تهمه أسراب البعوض التي تسرق دمه مقابل منحه حمى الملاريا طالما ان في وجوده يشكل حماية لحيواناته من عصابات السرقة التي انتشرت مستخدمة عربات البكاسي هايلوكس. ومع مغيب الشمس يعود راعي غنم القرية سالم ود خير السيد بصحبة القطيع ويحرص على ألا يتأخر كثيرًا لأن أطفال القرية يعتمدون على الحليب كوجبة غذائية رئيسة يتناولونها قبل اليوم ولكنهم لا ينفردون بها وانما تشاركهم أسرهم لتناول وجبة العشاء المكونة من الفطير ومنه يتم اعداد شاي المغرب. واعتاد الناس على ان يتوجهوا الى الراعي لاستلام أغنامهم قرب الترعة لكن الماعز لا تصبر كثيرًا على صغارها فتصيح بثغاء لا ينقطع وتحدث ضجيجاً يثير الازعاج في القرية بينما صغارها تتبادل مع أمهاتها الصياح تريد ضروعها لاشباع بطونها الجائعة. جاءت العازة بنت كاسر الى حيث يقف الراعي مع الغنم وقادت معزتها الواحدة الى بيتها وعندما وصلت وهمت بحلبها وتسقي طفلها الذي يصارع النعاس فوجئت بان ضرع الغنماية عديم الحليب فاشتكت لجارتها أم سلمة بت الكباشية - ما لقينا لبن في ضرع الغنماية الحكاية شنو؟ ردت عليها - بصراحة سمعت الناس يقولوا الراعي برضع الغنم - سجمي الزول بقى تيس.. الكلام ده معقول.. باكر إن شاء الله بمشي ليه وأسأله بودي لبنا وين؟ - يا زوله ما تشيلي هم جيبي الكورة نقسم ليكم لبنا - كتر الله خيرك يا جارت الخير والهنا وقبل ان يمضي الليل الى الظلام الليل الدامس أوقدت الزوجة ست النفر النار وبدأت في إعداد الفطير لوجبة العشاء وقالت لزوجها الزبير - الفطير جاهز قوم أحلب الغنم البقرة قبل ما ينام الأولاد استجاب زوجها الزبير لكلامها وجاء من باللبن من الغنم وخلال لحظات جلس هو وزوجته والعيال على الأرض وأياديهم تتسابق غوصاً داخل صحن الفطير كأنهم يبحثون عن غنيمة وفجأة سمعوا صاحب دكان القرية ود نور الدائم ينادي - يا أهل البيت السلام عليكم رد عليه الزوج الزبير - لا سلام على الطعام .. يا زول أدخل .. حرم تتفضل .. عندنا عشاء فطير باللبن حار يستجيب ود نور الدائم للدعوة ويجلس معهم على الأرض بينما الزوجة انسحبت بهدوء منهم وتوجهت الى المطبخ لتصنع المزيد الفطير وبينما كانت القرية تمضي بهدو نحو الليل الدامس عوى كلب مجهول في مقدمة القرية أكثر من مرة واستجابت له بالنباح العديد من الكلاب وصهل حصان كارو عبد النبي وحتى أبقار أولاد العمدة شاركت بالخوار واستيقظ ديك العاجبة من نومه على الحبل وأخذ يصيح ويصيح ثم يصيح ليؤكد وجوده في القرية لا ليعلن عن انبلاج الفجر.. واستفزت الأصوات الحمير وهي تأكل "عليقة " اليوم فشاركت بنهيق ما أنكره. وفي دكان ود نور الدائم خليط من الناس بينهم كبار وشباب وصغار جاء بعضهم لشراء الفول لوجبة العشاء لكنهم انشغلوا بالكلب الذي يعوي مؤكدين على انه مصاب بداء السعر القاتل وشددوا على وجوب قتله لأنه يشكل خطراً على سلامة أهل القرية وحيواناتهم وتبرع عبد الله ود فضل المولى بالذهاب صباحا الى مركز الشرطة لابلاغ المسؤول وحضه على قتله لكن سعيد أبو طاقية الذي يعمل حارساً في مدرسة القرية تدخل في النقاش قائلاً: - أنا بصراحة بشوف ما في داعي لتربية الكلاب في القرية .. الناس تطوروا والقرى بقت آمنة يعني شنو الفائدة من تربية خمسة وستة كلاب في البيت عشان كده يا ود فضل المولى أطلب من الشرطة ترسل لينا حملة لابادة جميع كلاب القرية. لكن الفكي ود النور لم يعجبه الاقتراح فقال بانفعال - ياجماعة نحن نعيش في قرية وليس في المدينة وما عندنا شرطة والكلاب هي التي تقوم على حراستنا وتدخل طالب جامعي في النقاش - بالله عليكم لو جاءنا زائر من خارج الدولة وسمع موسيقا أصوات الحيوانات في قريتنا بقول علينا شنو؟ وبعد ان ضحك الجميع على كلمة زائر من خارج الدولة للقرية تدخل صاحب الدكان ود نور الدائم - الكلام ده مش ليه لزوم الآن كده خلونا نسمع كلام مسؤول مركز الشرطة وبعد العشاء وتحت ضوء القمر تغير وجه القرية.. اختفت الحركة .. نام الأطفال بعد ان دبغت أمهاتهم أجسامهم بالزيت لزوم حمايتهم من لدغات البعوض الموجعة.. وعجزت عيون الرجال المرهقين عن مقاومة النعاس فناموا .. وصمتت الحيوانات مستسلمة الى سحر الليل الهادئ.. وحتى ديك العاجبة لم يعد يسمع له صياح.. وبدأ الجو صافياً هادئاً ولم يبق أمام نساء القرية الا التفكير في شيء واحد.. شيء يعطر القرية ويزيل عنها رائحة الحيوانات ويطرد منها البعوض .. تواصلت النساء مع بعضهن البعض واتفقت الآراء على إشعال حفر الدخان المحشوة بحطب الطلح.. وجلست الى جوارها في انتظار ان يأتيهن الدخان من بين النار المشتعلة.. وحين تأخر عليهن هممن باطفائه لكن في تلك اللحظة انطلق صراخ وعويل مؤلم أيقظ القرية عن بكرة أبيها فانتشر الخبر.. خبر وفاة العاقب ود العمدة بعقرب لدغته عندما كان يجهز لزوجته حطب الطلح فغادر الرجال بيوتهم عاجلا وعانت النساء احساسا مؤلما ولم يكن أمامهن من خيار غير إطفاء حفر الدخان والتوجه إلى بيت البكاء.