إن عهد التعددية الحزبية الثالثة كان يُحتضر في أخريات أيامه، وأضحى كأعجاز نخل خاوية، وكان الجميع على يقين بأنه آيل للسقوط مع توقع انقلاب عسكري تعزف موسيقاه العسكرية في أية لحظة، وقد حدث انفلات أمني وتمدد التمرد وكادت الخرطوم أن تصبح عاصمة بالوكالة وليست عاصمة بالأصالة، إذ كانت بعض الدول الأجنبية تتدخل من على البعد «بالريموت كنترول» عبر سفاراتها التي سرحت ومرحت بلا حسيب أو رقيب متجاوزة كل الخطوط الحمراء مخترقة للسيادة الوطنية، وكان مرد هذه العنجهية ورفع الأنوف في ازدراء إلى أن تلك الدول ساهمت بدفع أموال طائلة في تمويل الانتخابات لبعض الأحزاب أو بالأحرى لقياداتها، وتريد أن تسترد قيمة تلك الفواتير خصماً على الكرامة الوطنية، وقد نالت الحكومة المنتخبة تفويضاً شعبياً وكانت تمتلك الشرعية، وبدلاً من أن تنكب على العمل والإنتاج وتنفيذ برنامج تنموي وخدمي مع الالتزام بما تعهدت به في برامجها أمام الناخبين بالحفاظ على هوية الأمة، إلا أنها ضربت بهذه الشرعية عرض الحائط، وخضعت للتنظيمات الصغيرة ذات الوزن الجماهيري الخفيف «وزن الريشة»، وانساقت خلفها وانقادت لها في تبعية مذلة، وانشغلت بما سمته «برنامج قوى الانتفاضة»، وساد الهرج والمرج والكلام الكثير الذي لا يجدي فتيلاً، وسقطت هيبة الدولة وتحول الوطن لأركان نقاش صاخبة. وفي الجانب الآخر كانت المعارضة شرسة، واختلت المعادلة بين الطرفين، وتحولت الديمقراطية لفوضى، ولم تكن هناك ركائز قاعدية لعدم وجود مجالس ريفية ومحلية منتخبة أو معينة، وأيضاً لم تكن هناك مجالس تشريعية إقليمية منتخبة أو معينة. وفي الليلة الختامية لثورة المصاحف في شهر رمضان المعظم، اعتلى الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية منصة الخطابة، وكان ثائراً وغاضباً، وأعلن أنهم اشتركوا في الحكومة، وكانوا مثل الذي اضطر مكرهاً لأكل لحم الخنزير. ووصف بسخرية لاذعة الديمقراطية المطبقة في السودان بأنها مفرغة من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية، وأنها على حد زعمه وتعبيره ديمقراطية سادة وعبيد تابعين، وأنهم سيحدثون فيها تغييراً جوهرياً، وأعلن أنهم سيعودون قريباً للحكم، وحديثه في تلك الليلة أثار في الأذهان عدة علامات استفهام عن كيفية هذه العودة، إذ أنهم لن يستطيعوا ذلك عن طريق طرح صوت ثقة في الجمعية التأسيسية لأن عدد نوابهم «51»، واستقال منهم ثلاثة انضموا للحزب الاتحادي الديمقراطي، وأصبح عددهم «48» وللحزبين الآخرين مجتمعين «164» نائباً أضيفت إليهم ثلاثة، بالإضافة لنواب الكتل البرلمانية الأخرى. وتبعاً لذلك فإن العودة للحكم لا تكون إلا بالقيام بانقلاب عسكري. وفي تلك الأيام كان نائب الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية ساعده الأيمن وصفيه الأثير يومئذٍ وزعيم المعارضة في البرلمان «والمنسق تنظيمياً بين المدنيين والعسكريين»، كان يقوم على رأس وفد تنظيمي بزيارات للجنوب لمؤازرة القوات المسلحة، ولكي تأخذ تلك الزيارات طابع الدعم المعنوي كانوا يصطحبون معهم بعض الفنانين مثل الفنان الراحل بادي محمد الطيب للترفيه عن الضباط والجنود. وفي الثلاثين من يونيو عزفت الموسيقى إيذاناً بنجاح الانقلاب العسكري الذي بشَّر به الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية تلميحاً لا تصريحاً في ليلة المصاحف بقصد منه أو بدون قصد، وألقى رئيس مجلس قيادة الثورة البيان الأول، وفي نفس اليوم أذيعت عدة مرات الأغنية التي تغنى بها الفنان كمال ترباس «أهلاً ثورة الإنقاذ حبابا» وهي من كلمات الأستاذ ذو النون بشرى الذي كان يعمل بالإذاعة. وأول هدية قدمت للنظام الوليد الجديد هي إعلان رفع مزارعي مشروع الجزيرة وامتداد المناقل إضرابهم المعلن مساندة منهم للنظام الجديد الذي فعل بعد سنوات بمشروعهم العملاق ما لم يفعله النجار في الخشب، ولكن كما يقولون «كراع البقر جيابة»، وأصبحت الآن الحاجة ماسة للمشروع الذي يملك كل مقومات العودة بقوة ليكون إحدى دعامات السودان الاقتصادية، أي أنه سيصبح مثل طائر الفينيق كما تقول الأسطورة الذي يعود أكثر قوة ومنعة بعد احتراقه. وكان المواطنون منذ بدايات عهد الإنقاذ على قدر التحدي والمسؤولية، وقدموا تضحيات جساماً، وصبروا في أيام الندرة، وكانوا يشربون الشاي والقهوة بقليل من السكر أو بدون سكر أو بالبلح، وتحملوا الندرة في كافة المواد التموينية وفي المواد البترولية، ونشطت اللجان الشعبية في المراقبة وتوزيع تلك المواد بالقسطاط، وساهموا في حماية المنشآت والمؤسسات من أي تخريب. وقد بذل جهد كبير في بسط الأمن بواسطة الأجهزة الأمنية والدعم الشعبي عبر كوادر آلت على نفسها أن تساهم بالحفاظ على الأمن، ووجدت القوات المسلحة الباسلة الدعم الشعبي، وتدافع الكثيرون لحمل السلاح للدفاع عن الأرض والعرض والعقيدة متطوعين. ولكن كان هم البعض تأمين كراسي السلطة، وكثرت المنظمات بمسميات مختلفة. ولكن ما يهم الجميع هو الحفاظ على الأمن القومي الذي يعلو على ما عداه. إن المسيرة الطويلة فيها صفحات مشرقة مضيئة وأخرى كالحة مظلمة، وتوجد إنجازات كبيرة ملموسة تقابلها إخفاقات واضحة. وضمت المسيرة المخلصين المتجردين، وضمت أيضاً من يتسمون بالشوفونية وحب الذات، وهناك من يكرِّسون جهودهم للصالح العام، وعلى النقيض منهم هناك من ينحصر همهم في مصالحهم الخاصة، ولأننا بصدد المذكرة فإن الإشارة هنا للسلبيات بغرض تصليح الإعوجاج، كما أن بعض القيادات الإنقاذية ساهمت في تأجيج القبلية بسعيها لاستقطاب أكبر عدد ليأتوا ويبايعوا، ولذلك أصبحوا يتبارون لإثبات أغلبيتهم العددية، واستنصر البعض بقبائلهم لينالوا عن طريقها المناصب، وأصبحت المحاصصة في أحيانٍ كثيرة على أساس قبلي، بالإضافة للمشكلات التي تحدث بين بعض القبائل المتجاورة، وبدلاً من فض النزاعات بالطرق الأهلية ابتدعت وسائل تزيد التوتر. أما الفساد الذي كثر الحديث عنه وأصبح على طرف كل لسان، فإن الدولة اعترفت بوجوده، وكونت آلية لمحاربته تابعة لرئاسة الجمهورية، والاعتراف الثاني الذي أملته الضرورة القصوى «والشديد القوي» هو صدور توجيهات بضرورة إلزام جميع الجباة باستعمال أورنيك «15»، وفي هذا اعتراف رسمي بأن البعض كانوا يتجاهلونه ولا يستعملونه. وصدر قرار يقضي بمنع بعض الوزارات والمصالح الحكومية من تجنيب جزء من إيراداتها، وفي هذا أيضاً اعتراف بأن الدولة كانت تعلم بكل ما يجري ولكنها تغض الطرف عنه، وصدرت توجيهات بضرورة إيقاف الصرف البذخي وفي هذا أيضاً اعتراف بما كان يجري، وكذلك صدرت توجيهات بضرورة الحد من كثرة الزيارات والوفود التي تذهب للخارج وتُنفق فيها أموال طائلة بالعملات الحرة، وبعضهم يظل دائماً في حالة سفر، أي «كالمنشار طالع يأكل نازل يأكل»، وجل المهام التي يذهبون لتأديتها يمكن أن تقوم بها السفارات وملحقياتها في الخارج. إن المواطنين يعيشون هنا في السودان ولا يعيشون في مالطة أو في جزر القمر أو جزر الواق واق، وكل شيء هنا مكشوف والمجتمعات ضيقة، ويرى الناس بأعينهم الفساد المالي، أما عن الدليل المادي وما أدراك ما الدليل المادي، فهو أمر فيه صعوبة لأن الفساد الموجود الآن هو فساد أخطبوطي زئبقي، ومن السهولة رؤية الزئبق ولكن من الصعوبة الإمساك به. ولسان بعض اليائسين من رد المال المنهوب يردد «الفاتن خلهن أقرع الواقفات». والمطلوب هو إيقاف هذا الداء الوبيل واستئصاله مع السعي لاسترداد ما يمكن استرداده، أما الذي أضحى مثل اللبن المسكوب على الأرض فيصعب استرداده. إن الشيخ الجليل صادق عبد الله عبد الماجد اتفق الجميع على توقيره واحترامه، سواء أكانوا مؤيدين له في الرأي أو مخالفين، ولكن هناك اتفاق على احترام هذا الشيخ الورع المعروف بالجرأة والصدع بقول كلمة الحق، وقد ذكر فضيلته أن الفساد في هذا العهد لا مثيل له في كل العهود التي مرَّت على السودان، وهي كلمات ينبغي أن يقف عندها المسؤولون وكل المواطنين طويلاً. لقد نشرت الآن مذكرة نرجو أن يكون الهدف من ورائها إصلاح الإعوجاج وتقويم المسيرة، ونأمل ألا يستغلها البعض لتكون تمهيداً لهم لخوض معارك انتخابية في الحركة الإسلامية أو في حزب المؤتمر الوطني. ونرجو ألا تستغل المذكرة في الصراعات بين مراكز القوى أو في المنافسات بين الأفراد في المواقع القيادية. والمهم هو الإصلاح، لأن المشهد الآن ينطبق عليه قول طارق بن زياد «البحر من خلفكم والعدو أمامكم»، أي إما الاستمرار في هذا الوضع المعوج الذي يحتاج لتقويم أو الرجوع لعهد الفوضى المشار إليه آنفاً. إن المذكرة الإصلاحية إذا كانت بغرض إصلاح المسيرة المعوجة واجتثاث الفساد فإن الموقعين عليها لن يكونوا ألفاً، بل سيصبحون ملايين يمكن أن يبصم كل واحد منهم بأصابعه العشرة لا بالإبهام فقط.