هناك مجموعة من الادلة التي تشير الى احتمال كون بداية حملات الربيع العربي الدموية قد بدأت تتبلور مع ظهور الرئيس حسن عمر البشير في حركته الانقلابية عام 1989، بل وربما قبل ذلك باعوام كثيرة مع بداية نشاط الشيخ حسن الترابي صاحب الافكار الملهمة لعمر البشير بكل التطورات التي اجراها في الخرطوم طوال مدة حكمه التي امتدت حتى الان الي اكثر من ثلاثين عاما. وكانت اولى خطوات البشير بعد انقلابه وجلوسه على مقعد الرئاسة بصفته رئيسا مؤقتا، اصدار قرار بحظر به استيراد الخمور و تداولها في السودان رغم كون سكان السودان الجنوبي من المسيحيين ونسبة عالية ن سكان دارفور ايضا من غير المسلمين. وبذا شكلت خطوته تلك لاحقا أسس الانطلاق نحو التيار الاسلامي الأكثر رفضا للتعددية المذهبية السائدة والمعروفة عندئذ في مصر ولبنان وسوريا والمغرب وتونس، اي في معظم الدول العربية باستثناء دول الخليج (وغيرها) التي لم تكن قد استقلت بعد، والتي بسبب تنوعها جرت احداث ما سمي بربيع العربي هنا وهناك. ومع ذلك فان شخصية حسن الترابي، وحسب تجربيتي القصيرة معه توحي بعكس ذلك تماما. فهو كثير البعد عن التطرف الديني، بل كان رجلا مثقفا وذو ثقافة عالية ومتميزة. اذ كان حائزا على عدة شهادات دكتوراة، منها دكتوراه من جامعة السوربون واخرى من كمبردج وثالثة من هارفارد، اضافة الى شهادات عليا اخرى من عدة جمعيات وجامعات دولية اخرى اطلعت شخصيا ومنه مباشرة على بعضا منها، اضافة الى اطلاعي على بعض الافكار التقدمية التي تبناها نتيجة جهوده في الجدراة والاطلاع. وقد اذهلتني افكاره وتطلعاته القومية والدينية والحضارية، اذ شكلت الصورة المعاكسة تماما لطروحات بن تيمية. بل كان حسن الترابي يتبنى افكارا تقدمية تلقى بعضها من استاذه ومعلمه محمود محمد طه الذي تجرأ الترابي لاحقا وتدريجيا على تجاوز دعواته الاصلاحية، اذ بات يعارض رفض الاختلاط بين الجنسين، ويذكر بان المرأة كثيرا ما أمت المصلين في عهد الرسول(ص)، كما الغى الاعتراضات على الزواج بين منتميين لطوائف مختلفة، اي ينتمي احدهما لطائفة دينية تختلف عن الأخرى في المجتمع السوداني الموزع بين الخاتمية والانصار، وهي انتماءات قبلية وعشائرية شكلت معالم المجتمع السياسي والحزبي في السودان. ومن هنا قد يظن البعض ان انقلاب عمر البشير عام 1989 على رئيس الوزراء المنتخب المنتخب بطريقة شرعية ودمقراطية وهو الصادق المهدي، كان انقلابا لم يكن له ارتباط قوي بوتجيهات الشيخ حسن الترابي. وقد اطلق البشير على نفسه يومئذ لقب الرئيس المؤقت للسودان كما سبق وذكرت، ولكنه انتخب بعد ذلك لاكثر من مرة، رئيسا فعليا للجمهورية، بعد بقائه على مقعد الرئاسة كرئيس مؤقت لاكثر من عقدين. وهكذا قد يبادر البعض للاعتقاد بأن الاوان قد حان في عام 2019 للاعتقاد بأن البشيرربما بلغ مرحلة نهاية ربيعه العربي السوداني الذي مضى عليه ثلاثين عاما تقريبا أسوة بالرئيس حسني مبارك وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي. فلم يشذ عن هؤلاء ليبقى فترة اطول على مقعد الرئاسة اكثر من هذه المدة، الا الرئيس معمر القذافي الذي قاربت مدة اقامته على مقعد الرئاسة الاربعين عاما. والواقع انه قد جلس على مقعد الرئاسة في السودان الذي استقل منذ عام 1956 مشكلا واحدا من اول وابرز الدول العربية التي توجهت نحو الاستقلال منذ تأسيس جامعة الدول العربية، عدة روءساء وزارات انتخبوا بطريقة شرعية وديمقراطية. وكان رئيس وزرائها الاول هو عوض الله الذي سرعان ما اطاح به انقلاب عسكري قاده الجنرال ابراهيم عبود قائد الجيش السوداني الذي أدخل السودان في حلبة الانقلابات العسكرية المتتالية بعد ان كان قد افتتححها في سوريا الزعيم السوري حسني الزعيم في اربعينات القرن الماضي. وبعد عدة تطورات سياسية متلاحقة في السودان اوصلت احداها جعفر النميري، لأن يصبح رئيسا للجمهورية لعدة سنوات مر بها السودان خلال مرحة طويلة من المتغيرات السياسية انتهت بوصول اكثر رؤساء السودان حرصا وامانة على الالتزام بوعوده، وذلك هو اللواء سوار الذهب الذي تعهد اثر انقلاب البريجادير هاشم عطا مع اثنين من الضباط على جعفر النميري، بأن يسلم القيادة للمدنيين بعد انتهاء مرحلة انتقالية قصيرة على استلامه لمقاليد الامور تمهد لوصول السلطة السلمي والفوري للمدنيين. والوافع ان انقلاب هاشم عطم لم يصمد الا ثلاثة ايام، اذ ساعد في القضاء عليه واعدام منفذيه فورا ودون محاكمة ، قوة عسكرية ليبية تسللت تحت جنح الظلام وعبر حدود ليبية قصيرة، فسيطرت على الاذاعة حيث تواجد الانقىلابيون. وبعد تنفيذ مهمتهم اي تصفية الحركة الانقلابية تلك، سلموا قيادة الدولة للواء سوار الذهب الذي وعد بأن يسلمها فعلا لرئيس الوزراء المنتخب شرعا في انتخابات دمقراطية نزيهة. وقد وفى بوعده وسلمها فعلا له، ولكنه، أي الرئيس المنتخب آنئذ،، وهو الصادق المهدي، لم يبق طويلا في مقعد الرئاسة، اذ سرعان ما قلبه عمر البشير في عام 1989 بادئئا مع عملية تغييره تلك مرحلة التشدد ضد غير الاسلاميين في بلاد نسبة عالية من سكانها، كما في جنوب السودان، من المسيحيين. ومن هنا قد يمكن القول ان تحرك البشير في عام 1989 ربما كان شكل بداية تململ الربيع العربي الذي احتاج الى 21 عاما تقريبا ليبلغ مرحلة الاشتباك المسلح المصطبغ بالخلافات الطائفية والاثنية مما قد يمكن القول معه ان انقلاب البشير، كان البداية والمحرك. وبذا قد يمكن القول الآن ان عهده قد بلغ الآن ذروته فاقترب كثيرا من نهاية مراحل الربيع العربي التي بات يميل البعض الى وصفها بالبائدة. ومع ذلك يبقى التساؤل عن الدور الفعلي الذي لعبه الشيخ حسن الترابي والذي كان يقود تحركا سياسيا في مرحلة ظهور البشير يحمل اسم حزب المؤتمر الشعبي والذي سرعان ما بدأ يحث البشير الذي اسس أيضا حركة حزب المؤتمر الوطني، مما ادى في النهاية الى التنسيق بين الحركتين بحيث بات البشير رئيس الجمهورية والترابي رئيس البرلمان. ولكن التنسيق بينهما لم يدم طويلا . ففي احد ايام عام 1993 تدفقت دبابات الجيش السوداي على مبني البرلمان واعتقلت الشيخ الترابي ووضعته في السجن. وتكرر الامر في عام 2000 عندما اطلق سراحه اخيرا في عام 2003. الا ان الشيخ الدكتور حسن الترابي ظل يواجه الاعتقال مرة تلو الاخرى، بحيث بات يصعب معه أن يعلم أحد متى يكون في داخل السجن او في خارجه، الى ان توفي في آذار عام 2016 . وأنا خلال عملي في حقل الاعلام زرت السودان مرتين، الاولى في السبعينات عندما دعيت مع اعلاميين آخرين للاطلاع على الوضع في جنوب السودان الذي كان يمر بالمرحلة الانتقالية التي تمهد لاجراء الائستفتاء على مستقبل الجنوب بحيث يبقي متحدا مع السودان ام ينفصل عنه. واشار لنا ملاح طائراتنا ونحن نهم بمغادرة الطائرة، الى طائرة اخرى تقف غير بعيدة عن طائرتنا . وقال هذا الرئيس النميري. لكنا اكتفينا بالتلويح للرئيس النمري الذي كان يقف عن بعد عنا ، فلوح هو ايضا بيده لنا. وهنا هرولنا الى مدينة جوبا عاصمة الاقليم ،لنطلع على الوضع فيها. وكان الوضع في الخركوم الذي جئنا للتو منه سيئا، لكن الوضع في جوبا كن اسوأ كثيرا . فالكثير من النساء تسير في الشوارع عاريات الصدور ويحملن اطفالهن على صدورهن ويلوحن للكاميرا التي كانت معنا ضاحكات وملوحات بايديهن باشارات ما. ومع ذلك جاءت الفرصة للالتقاء بالرئيس البشير في منتصف عام 1995 عندما دعي بعض الاعلاميين للاطلاع على الوضع في السودان وهو في مرحلة الاستعداد لاجراء الاستفتاء. ففي هذه الريارة التقيت بالرئيس عمر البشير في مكتبه بالقيادة العامة للقوات المسلحة. وقد تحاورنا معا لبعض الوقت عن مستقبل السودان واحتمالات بقائه موحدا. وفي هذا العام ايضا، بل وفي ذات اليوم، التقيت مطولا وأكثر من مرة بالدكتور حسن الترابي الذي كان قد دعا الاعلاميين للمشاركة في مؤتمر صحفي يعقد في مركز اقامته. وبعد المؤتمر الصحفي انتشر الصحفيون هنا وهناك في تجمعات صغيرة. وكنت انا ووفاء عمر مراسلة وكالة رويترز وكذلك ايمن الصفدي من كبار العاملين في احدى كبريات الصحف الاردنية اليومية قد شكلنا مجموعة تستظل بظل شجرة ما في صيف الخرطوم الحارق. واثناء تجوله في الحديقة، لاحظ الدكتور الترابي تواجدنا معا فجاء وفي نيته الدردشة معنا. وهنا فاجأناه بالسؤال ودون تمهيد او مقدمات: نسأله بصوت واحد: "عجبنا ليلة امس لمشاهدتك تأتي للمشاركة في مهرجان المجموعات الصوفية التي تدفقت باعلامها على موقع الاحتفال. فكيف يتقبل رجل مثلك مثقف ويحمل هذا العدد من شهادات الدكتوراة بأن يشارك في اعمال ونشاطات كهذه". سادت لحظات من الصمت وبعدها سأل الترابي: "هل تعتقدون حقا بانني ارغب فعلا في االمشاركة في احتفالات دينية رجعية كهذه؟ انا لا اكتفي فحسب بعدم تحبيذها واستنكارها بل اتمنى ان نتطلع الى اكثر من تطوير هذه المفاهيم القديمة، لل واتطلع الى الغاء حتى مفاهيم الائمة الاربعة كالشافعية والحنفية وغيرها. لكني لا اجروء على التلميح بذلك. تخيلوا ماذا سيكون مصيري لو اعلنت صراحة عن حقيقة ما اؤمن به. اقلها قطع رأسي فورا". ذهل ثلاثتنا وأدهشنا تصريحه ذاك. وثلاثتنا من الحضور ما زلنا احياء، بل ان ايمن الصفدي قد بات في مرحلة ما وزيرا للخارحية الاردنية، ومرة نائبا لرئيس وزرائه وهو الان عضو في الحكومة الاردنية الحالية. لعل هذا يلقي بعض الضوء على حقيقة ما يجري حاليا في السودان كاتلب ومحلل سياسي