د. عبد اللطيف البوني (1) أمضيت سحابة نهار الاثنين الأول من أمس في ندوةٍ عن وسائل التّمويل الزِّراعي في المَصارف الإسلامية أُقيمت بدار المصارف السُّودانية، وأتت الندوة ضِمن استعدادات بنك البركة لإقامة ندوةٍ كُبرى عن هذا الأمر في سلسلة ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي، وقُدِّمت في الندوة المُشار إليها أوراقٌ في غاية الأهمية ودار نقاشٌ ثرٌّ حولها، ومن ضمن الأوراق، ورقة قدّمها الدكتور وجدي ميرغني محجوب عن التّمويل الزراعي في السُّودان، أوضح فيها أنّ إمكانيات السُّودان الزراعيّة لا مثيل لها من حيث الأرض السَّهليَّة المُنبسطة والمياه العذبة، فالأمطار التي تهطل على أرض السُّودان تمنحه عشرين ضعفاً مِمّا يجود به نهر النيل بكل فروعه وهذا بدوره أدّى إلى أن تَفُوق المِساحة المَزروعة في بعض السنوات الخمسين مليون فدان من قرابة المائتي ألف فدان صالحة للزراعة، ولكن للأسف العَائد من هذه المساحة الضَخمة قليلٌ جداً بدليل إسهام الصادرات الزراعية المُتواضع في الدخل القومي.. وأرجع وجدي هذه (المَحَقَة) لعدم وجود التمويل الكافي للزراعة في السُّودان خَاصّةً الزراعة المطرية، وبدون تَمويلٍ للزِّراعة سَيظل السُّودان يرزح في فقره الحالي الى يوم يبعثون. لقد كانت ورقة السيد وجدي في غاية الموضوعية والعلمية، لأنّها نابعةٌ من تجربةٍ ثرّةٍ في العمل الزراعي. (2) اتّضح لي من خلال المُناقشات التي تمّت في الندوة عدم قيام البنوك السُّودانية بالدور المطلوب منها في التّمويل الكَافي للزراعة باستثناء البنك الزِّراعي الذي خَصّصته الحكومة لهذا الأمر وأن كلفة التمويل عالية جداً مُقارنةً بما عليه حال التمويل في الدول الأُخرى وأنّ هذه البنوك لديها الفوائض الكافية التي تُمكِّنها من التمويل الزراعي المطلوب، ولكن هناك مُعيقات لهذا الأمر من ضمنها سياسة الدولة، فالدولة لم تُبدِ الاهتمام الكافي بدعم الزراعة (الاتحاد الأوروبي بجلالة قدره، أربعين في المائة من ميزانيته تذهب لدعم الزراعة).. ومن ضمن المُعيقات الأُخرى الصيغ الإسلامية للتمويل، فبعد أسلمة النظام البنكي في السُّودان اتّضح أنّ صيغ تمويل الزراعة مُحتاجة لتطويرٍ حتى يتم الدعم الكافي للزراعة وبتكلفةٍ أقل مِمّا عليه الآن، وقد طالب الخبير الاقتصادي عبد الرحيم حمدي بمزيدٍ من الاجتهاد من هيئات الفتوى الشرعية. (3) لقد بَدَا لي أنّ هُناك مُفارقةً في تجربة أسلمة المصارف في السُّودان، فهذه المصارف تَتَلَقّى قُرُوضاً حَسَنَةً من المُودعين، فمُعظم الذين يضعون أموالهم في البنوك لا يتقاضون عليها أرباحاً، لأنّ في ذلك ربا، لا بل يدفعون للبنوك رسوماً مُقابل دفاتر الشيكات وبعض المُعاملات ومع ذلك عندما تقرض هذه البنوك الزراعة تتحصّل على أرباح عالية ما أنزل بها من سلطان.. فأيِّ تَطفيفٍ هذا؟! وفي تقديري أنّه لا بُدّ للقائمين على هذه التجربة الخُرُوج من ضيق الفقه إلى مقاصد الشريعة، ومن ثَمّ إلى قيم الدين. إنّ السودان شهد من قبل تجارب ثرّة للتمويل الزراعي يُمكن الاستفادة وتطويرها لتواكب مطلوبات العصر الحديث، لذلك اقترحت على مُمثل بنك البركة أن تكون ندوتهم الكُبرى عن اقتصاد المُسلمين بدلاً من الاقتصاد الإسلامي، ويُمكنهم اعتبار ما يُمارسه الناس في هذا الشأن أعرافاً، فالعرف مَصدَرٌ من مصادر التشريع عند السادة المالكية. أيُّها الناس أنّ نظام الصيرفة في السُّودان يحتاج كله إلى إعادة نظر، فغطاء الأسلمة هذا يجب أن لا يرهب الناس، فلا ضرر ولا ضرار في الدين. السوداني