د. مزمل أبو القاسم *كان لأبي أخزم الطائي، (وهو جَدُ حاتم المشهور بالكرم)، ابنٌ يقال له أخزم، قيل إنه كان عاقَّاً لأبيه، فمات وترك أبناء وثبوا يوماً على جَدِّهم فأصابوه على وجهه وأدموه، فقال: (إن بنيَّ ضرَّجوني بالدم.. شنشنةٌ أعرفها من أخزم)، وقصد بها أن الأبناء أشبهوا أباهم في العُقوق، والشنشنة تعني العادة الغالبة، وقديماً قيل الطبع يغلب التطبُّع. *بذات نهج أبي أخزم نقول إن لغة الوعيد التي استخدمها قادة المجلس العسكري مع الثوار تمثل (شنشنةً) نعرفها مِن مَن سبقوهم على درب التلويح باستخدام العنف، ثم قرنوا قولهم بالفعل، ضرباً وسحلاً واعتقالاً وقتلاً. *تلك بضاعةٌ كاسدةٌ، وسلعةٌ منتهية الصلاحية، سيكون نصيبها بين الثوار البَوار، ولو أجدت السابقين لنفعت اللاحقين. *قالوا (لا فوضى بعد اليوم)، وللفوضى وجوهٌ عدَّة، أهونها قفل بعض الشوارع بالمتاريس، وإعاقة سير القطارات، وتفتيش الناس في الطرقات، والتعدي على بعضهم بالضرب والتفتيش. *من الوجوه الأخرى للفوضى (قفل) الطريق المؤدِّي إلى ضبط بعض رموز العهد البائد، وإعاقة (مسار) التحول الديمقراطي باحتكار المستوى السيادي للسلطة، ووضع (المتاريس) أمام قوى الثورة، بالحديث عن عدم امتلاكها لتفويضٍ من الثوار، و(تفتيش) مسارب التلكؤ في تسليم السلطة لمدنيين، قبلوا إشراك العسكريين في المجلس السيادي، وأقروا بسهم الجيش في حماية الثورة. *ومن وجوه الفوضى الإبقاء على جهاز الأمن على حاله، بعد مرور ثلاثة أسابيع على سقوط النظام البائد، ليمنع قانونه ملاحقة وضبط من عذبوا الشهيد أحمد الخير رحمة الله عليه وقتلوه بالخابور، ويُضطر النائب العام لأن يرجو مدير الجهاز (للتكرُّم) برفع الحصانة عنهم، فلا يستجيب! *ومن علامات الفوضى التعلل بأن القانون المذكور _ برغم جُوره وسوء تدبيره _ مُلزِم للمجلس والنائب العام، بعد أن تم تعليق العمل بالدستور الذي يحكم كل قوانين السودان. *من سمات الفوضى أن يتم الاكتفاء بعزل النائب العام السابق، مع أنه تستَّر على الجرائم المروِّعة، وغض الطرف عن الدماء الزكية التي سالت مدراراً، لتروي أرض السودان الفتية مهراً للحرية، وأبى أن يمارس سلطاته، لإحقاق الحق، وملاحقة من قتلوا وسحلوا وضربوا واعتقلوا وانتهكوا حُرمات المنازل وأذلوا الحرائر. *من اقتحموا دار الشهيد معاوية بشير وأردوه بالرصاص في صحن داره وأمام أطفاله بدمٍ باردٍ وخسَّةٍ تليق بهم ما زالوا طُلقاء، بأمر النائب العام الذي اكتفى بتحقيقٍ صوريٍ موجز في تلك الجريمة المروِّعة، (أجراه بعد أكثر من أسبوع من لحظة وقوع الجريمة)، مع أنني تكفلت بأخذ ثلاثة شهود إلى مكتب النيابة في العمارات، فشهد أحدهم أنه رأى القاتل رأي العين، وأكد قدرته على تمييِّزه من بين الآلاف.. فلم يُعرض عليه حتى اللحظة. *من معالم الفوضى أن يتم ربط الحديث عن ما يحدث في ساحة الاعتصام بشغبٍ حدث في العبيدية، وانفلاتٍ ظهر في مناطق طرفية، من دون التكرُّم بتوضيح علاقة هذا بذاك. *هل يمنع الاعتصام الشرطة من أداء مهامها، لضبط المجرمين، ومنع الانفلات، وتنظيم حركة المرور في مناطق بعيدة عن ساحة القيادة؟ *نحن لا نجيز التعدي على الناس، ونرفض أخذ الحقوق باليد، ونطالب الثوار أن يتمسكوا بسلمية ثورتهم، ويعضُّوا على النهج الذي اتبعوه أربعة أشهر قاسية بالنواجذ، لأن أي اعتداءٍ على الآخرين يمثِّل اعتداءً على الوطن وأمنه واستقراره قبل ثورته، التي رفعت الحرية والعدالة شعاراً لها. *كل من يعتدي بدنياً أو لفظياً على الآخرين، ويصادر حق الشرطة والنيابة والقضاء في ضبط المتهمين والتحري معهم ومحاسبتهم عدوٌ لدود للثورة، يستهدف إجهاضها، ويعوق مسارها، ويخدم المتربصين بها.. وهمُ كُثُرُ. *لكننا وفِي المقابل نطالب المجلس العسكري أيضاً أن يفي بتعهداته، ويثبت أنه غير راغبٍ في احتكار السلطة، وأن لا يتسرع في بذل تعهداتٍ تتعلق بالسيادة الوطنية لأي جهةٍ خارجية، قبل أن يقول برلمان الشعب قولته فيها، ونطالبه قبل ذلك كله أن لا يُغلظ القول للناس بالوعيد والتهديد، وأن يكف عن وضع المتاريس في طريق تسليم السلطة السيادية للمدنيين، ويشحذ الهِمم لضبط القتلة، ومحاكمة من سفكوا الدماء وأذلوا حرائر السودان، وسطوا على ثروات الشعب، كي لا ينطبق على قوله وفعله ما رويناه عن أبي أخزم في مُستهل هذا المقال.. (شنشنةٌ نعرفها من أخزم).