الخرطوم - نهلة مجذوب حفلت فترة ما قبل الاستقلال بعدد مقدر من الأغنيات الوطنية التي صاغ كلماتها شعراء أفذاذ، وقام بتأديتها كبار الفنانيين، مدفوعين بالحمية الوطنية التي جرت في دمائهم مجرى النيل في الأرض الطيبة.. كيف لا وقد خرجت الأغاني الوطنية كما الرصاص المندفع من فوهات البنادق في صدر المستعمر، تؤجج وتلهب المشاعر الوطنية. وليس ببعيد عن الأذهان في هذا المنحى أغنية (يا غريب يلا لي بلدك) التي قذف بها العطبراوي في وجه المستعمر، وتسببت في سجنه، إذ كانت تثير لواعج الوطنية لدى الشعب. وقد أذكت الملاحم الوطنية - التي صيغت في تلك الفترة - الروح والبدن، وحرضت الملايين للتدافع نحو ميادين القتال. وبرع في مجال الأغنيات الوطنية الكثير من أبناء السودان الموهوبين، الذين تباروا في نظم وتلحين وأداء الكلمات القوية والمعبرة.. (المجهر) استعادت ذاك النظم الجميل والمؤثر وقلبته مع البروفسور «الفاتح الطاهر»، عميد كلية الموسيقى والدراما والمسرح السابق، الذي ذاع صيته وعرف بأنه (أبو الموسيقى). } الشعر وحوادث النضال يقول البروفيسور»الفاتح الطاهر»: إن حوادث النضال بدأت عندما كان عدد من المثقفين يجتمعون كل أسبوع، ويتفاكرون في أحوال السودان ونيل الحرية، حتى انبثقت من تلك الاجتماعات في العام 9211 جمعية (الاتحاد السوداني) التي ضمت كوكبة من المثقفين الناشطين الذين سعوا لوحدة السودان مع مصر، وكان «خليل فرح» أحد أعضائها البارزين، إضافة لجمعية اللواء الأبيض التي تأسست سنة 1924م. تلك الفترة هي التي شهدت مولد الأغنية الوطنية، وأولى القصائد كانت (يا أم ضفائر قودي الرسن واهتفي فليحيا الوطن) للشاعر «عبيد عبد النور»، وهي تنتمي إلى حقبة (الحقيبة) قليلاً، وكانت شعراً فقط وليست أغنية، وتلتها (في الفؤاد ترعاهو العناية من ضلوعي الوطن العزيز) التي صاغ كلماتها الشاعر الكبير «يوسف مصطفي التني». وهنا يذكر بروفيسور الفاتح إحدى طرائف (الأغاني الوطنية) إبان الاستعمار.. منها أن الحاكم الانجليزي «بِرمبل» وبصحبة مفتش أم درمان حينها «محمد نور» كانا يحضران احتفالاً بنادي الخريجين، وقدمت أغنية (في الفؤاد ترعاهو العناية)، فما كان من الخواجة «برمبل» إلا أن استنكر الأغنية، واعتبرها هجاء، وأمر بمحاكمة مغنيها.. لكن المفتش السوداني فاجأه وهو يقول بصرامة (حاكمني أنا)!! ومن هذا المنطلق الذي يسوده الحس الوطني لدى الشعب كانت بداية شرارة الأغاني الوطنية. } «خليل فرح» والشرف الباذخ ويضيف البروف «الطاهر» في إفاداته بالقول: إن الشاعر العظيم «خليل فرح» كان أحد الرموز الوطنية التي لعبت أدواراً مشهودة، وساهم في سطوع الأغنية المناهضة للاستعمار إذ كتب (الشرف الباذخ)، وكان يرددها طلاب الكلية الحربية أثناء المظاهرات أيام ثورة 1924م، لتأتي بعد ذلك فترة مؤتمر الخريجين، وظهر فيها الملحن العبقري «إسماعيل عبد المعين» الموسيقي والمغني الفذ الشهير، وكان معجباً جداً ب «خليل فرح» الذي كان يكتب الشعر الأخاذ عن الاستقلال والتحرر. } أناشيد الوعي بدأ «عبد المعين» - كما يقول البروف «الطاهر» - التلحين بالنهج الثوري، وقام بتلحين عمل (صه يا كنار) للشاعر «محمود أبوبكر»، وأثرت كثيراً كأغنية وطنية في هذا الوقت. ومؤتمر الخريجين كان ماضياً في طريقه السياسي، وحينها سافر «إسماعيل عبد المعين» إلى القاهرة ليدرس الموسيقى، وعند عودته عام 1940م قام بتلحين أغنية (إلى العلا.. إلى العلا) للشاعر «خضر حمد» في يوم واحد، وفي اليوم التالي نادى شباب المؤتمر وأجرى معهم بروفات وقدمت في نادي الخريجين بأم درمان، وكان من بين الحضور الزعيم «إسماعيل الأزهري» وبعض قادة الاستقلال. وكان قد برز رأي في (نشيد إلى العلا)، رغم لحنه الجميل، بأنه لا يمثل شعار مؤتمر الخريجين بالصورة المطلوبة، فتم بتكليف «إسماعيل» باختيار كلمات أخرى تعبر عن الخلاص من الاستعمار، وهنا رجع «عبد المعين» والتقي الدكتور الشاعر «محي الدين صابر» الذي تغني له «إسماعيل» بعدد من الأشعار.. وأخبره برغبة مؤتمر الخريجين.. ثم اختار قصيدته المشهورة (صرخة روت دمي) وقدمها في المؤتمر، وهنا شعار مؤتمر الخريجين أصبح من ثلاثة اناشيد، سميت أناشيد الوعي، وهي (صه يا كنار، إلى العلا، وصرخة روت دمي). وذهب إسماعيل عبد المعين للمدارس وجامعة الخرطوم لتحفيظ الطلاب أناشيد الوعي حتى عمت البلاد، وكان للطلاب دور في ذلك عندما يذهبون في إجازاتهم لأهلهم في الأقاليم وترديدها. } لطائف من (ثورة الأغاني) ومن لطائف المواقف إبان الثورة لأجل الاستقلال، التي لعب فيها الجانب الشعري والغنائي دوراً متعاظماً.. أن الجماهير كانت تخرج في مظاهرات عقب كل حفل تطالب بالحرية والتخلص من حكم الاستعمار.. وهنا يروي ضيفنا البروفيسور أن العبقري «إسماعيل عبد المعين» دُعي لحفل في مدينة الأبيض سنة 1947م، ولما دخل المدينة قال له بعض مساندي المستعمر (لا تغنِّ أغاني وطنية.. غن أغنياتك العاطفية).. وعندما بدأ يتغنى قامت امرأة من الصفوف الخلفية، وقالت بصوت مسموع: (إسماعيل.. عايزين نسمع أغاني الوعي) في إشارة منها إلى الأغاني الوطنية، فقال مخاطباً الجماهير وكان بينهم إنجليز: (قوموا أقيفوا.. أناشيد الخريجين لازم نقيف لنسمعها)، فوقف الجميع، وبعدما خرجت الجماهير من سينما الأبيض في حالة هياج وثورة ومظاهرات ضد المستعمر. ويضيف البروفسور «الفاتح الطاهر»: وهناك قصة المطرب «عثمان الشفيع» الذي عندما ذهب لتسجيل أغنية (وطن الجدود) للشاعر الكبير «محمد عوض الكريم القرشي» بالإذاعة، رفض مديرها كونها أغنية ضد الاستعمار، وكان معه بمكتبه العلامة البروفسور «عبد الله الطيب» حاضراً المقابلة.. فأصر على المدير لتقديمها، فقال المدير: (إذا تغنت ما حأكون موجود)!! وسجلها «عثمان الشفيع» ووجدت رواجا. وفي حفل بسينما أم درمان ضم عدداً من المطربين آنذاك «أحمد المصطفى»، «التاج مصطفى» و»عثمان الشفيع» في العام 1954م، كان مسك الختام الفنان «الشفيع» فأدى الأغنية الخالدة (وطن الجدود).. وصار الجميع في حاله ثورة بلغت ذروتها في مقطع (فليخرج الباغي الشقي ويرفف العلم الحبيب).. وكنت - يقول البروفسور «الفاتح الطاهر» - حاضراً تلك المظاهرات ليلاً، وقد انضم إليها «عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة» أحد أبرز قادة الجبهة المعادية للاستعمار، ومن اللطائف أن البعض قال: (وسيلة» ده ما كان بيظهر علينا، ظهر من وين)؟، فجاء الرد من أحدهم: (إنت ما عارف الشيوعيين بطلعوا من الواطة)!! وفضت عناصر الإنجليز المظاهرة وقبضت على «عثمان الشفيع.» وفي درب النضال الملحمي تحدث البروفسور «الطاهر» عن إسهام المطرب «العطبراوي» - الذي كان ينتقل بين عطبرةوالخرطوم - في رفع الحس الوطني من خلال أغنياته (يا غريب يلا لي بلدك) والخالدة (أنا سوداني) لشاعرها المناضل أمد الله في عمره «محمد عثمان عبد الرحيم». } أغاني يوم الاستقلال .. ويقول البروفسور «الفاتح»: قبل الاستقلال بيوم طلب مدير الإذاعة «متولي عيد» من المطربين أن يقدموا أغاني للاستقلال، فرحبوا بالفكرة.. وقدم أحمد المصطفي (اليوم عيدك يا وطني)، و»عثمان حسين» (الأرض الطيبة بلادي أنا) ل «بازرعة»، و»عثمان الشفيع» (يا دخيل بره) من كلمات «إسماعيل خورشيد».. وهذه الأغاني قدمت في يوم الاستقلال، وفي نفس اليوم قدم «محمد وردي» نشيداً رائعاً يعد تحفة من تحفه (اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا يا إخوتي غنوا لنا)، من كلمات د. «عبد الواحد عبد الله» الذي سيعيش للأبد طالما عاش السودان. وختاما يرى البروفسور «الفاتح الطاهر» أن الشاعر والفنان والملحن لعبوا جميعاً دوراً كبيراً مع رجل السياسة في الاستقلال.. وحتى فترة الحقيبة بزغ فيها «زنقار» الذي تغنى ب (سوداني الجوة وجداني بريدو).. ويتمنى «الفاتح» أن يتذكر الناس هؤلاء الفنانين الذين سجنوا واضطهدوا في سبيل الاستقلال.