تلفزيوناتنا تكابد لتبقى .. وتقاتل للحفاظ على عمالتها، وأكثر ما يؤرقها أن تتجاوز كل شهر مصاعب الصرف .. صرف القروش لمستحقيها .. حتى لا تتوقف التلفزة .. وحتى لا يهرب العاملون بجلودهم .. بحثا عن مصادر أخرى لأكل العيش ! تلك المعلومة .. تميط اللثام عن السر في أن تلفزيوناتنا تكشف عن القليل جدا وتسكت عن الكثير، وهي مسألة إمكانيات، فالمحطات التلفازية الأمريكية مثلا .. تملك كل الوسائل المعينة لجذب الناس، كما تمتلك القدرة السريعة على التحرك .. لتغطية أي حدث يستجد .. ومنها طائرات الهيلوكبتر، التي تصور حالات المطاردة بين الشرطة والخارجين على القانون، كما تصور الحرائق والأحداث المتنوعة خدمة لمشاهديها . لكن التطور النوعي في البث التلفازي الأمريكي، خلق إشكاليات جديدة .. لا تخطر حاليا على بال تلفزيوناتنا العزيزة، ولم تدخل في دروبها الشائكة .. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ! من تلك (العزائم) التي مر بها الإعلام الأمريكي، ما قرأته أمس من اضطرار شبكة فوكس نيوز للاعتذار عن "خطأ بشري فادح" أدى الى مشاهدة المتفرجين لشخص يقتل نفسه بالرصاص .. بعد مطاردة من الشرطة. الخبر قال إن تغطية الحادث الذي وقع يوم الجمعة الماضية، أظهرت رجلا يقفز مترنحا من سيارة مسروقة مزعومة الى الصحراء قرب فينكس. وأنه في الوقت الذي كانت كاميرا من طائرة هليكوبتر تقوم بتقديم تغطية حية للحدث .. توقف الرجل على بعد مسافة قصيرة واطلق النار على رأسه .. ليسقط مضرجا بدمائه. بعد هذه التغطية .. قامت القيامة في أمريكا، وظهرت شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت مبدية امتعاضها من بث أحداث كهذه، لا يليق عرضها للأسر في البيوت، وهي الأسر التي تضم أطفالا صغارا .. لا أحد يعلم ما يسببه لهم مثل هذا المنظر من أذى ! الشبكة التلفازية الشهيرة .. بكل هيلمانتها وإمكاناتها، لم تجد حرجا في إعلان أسفها، فقدمت اعتذارا سريعا على الهواء .. استبقت به العواصف، بل وبادر نائب الرئيس التنفيذي للشبكة بالقول : "اتخذنا كل الاحتياطات لتفادي مثل هذا الحادث المباشر من خلال تأخير الصور الواردة من الهليكوبتر خمس ثوان .. وللاسف ما حدث كان نتيجة خطأ بشري فادح، ونعتذر عما رأه المشاهدون على الشاشة في نهاية الامر". اعتذار الشبكة التلفازية الأمريكية .. اقتضته الظروف السائدة في المجتمع، والتي يمكن أن تجرجر الشبكة في المحاكم، وتعرضها لدفع التعويضات المخيفة .. في حال إثبات أي شخص أو مجموعة تضررها من مشاهدة ما حدث، ما يهدد بقاءها ونفوذها في عالم التلفزة الملتهب . لحسن حظ تلفزيوناتنا .. أن إمكاناتها قاصرة عن (إدخالها) في المشاكل، فكل ما يمكن لبعضها عمله .. هو متابعة بعض مواكب الفرح بالإنجازات التي لا نرى لها أثرا، ولذلك فهي ليست بحاجة لطائرات هيلوكابتر .. تتابع بها الاختناقات المرورية التي تحدث يوميا في شارع المك نمر .. وشارع السيد عبد الرحمن، والجمهورية والجامعة وغيرها، بل لا تستطيع متابعة أحداث اجتماعية وإنسانية شديدة التأثير كحوادث السيارات المأساوية التي راح ضحيتها فنانون وتنفيذيون وسياسيون يصعب حصرهم، أو تصوير أي أحداث حية سريعة، ليست من الأجندة المبرمجة مسبقا . حقا .. رب ضارة نافعة !