قصدت الحركة الإسلامية أن ينعقد مؤتمرها العام بين أواخر ذي الحجة وفاتحة المحرم.. وهو توقيت ذكي يريد أن يقطف حُسنى شهر ذي الحجة الشهر الحرام الذي فيه أيام وليالٍ بيض.. وفيه نُسك وهدّي وإحرام، ولا بد من اعتمار وحج يبدأ بالتجرد من مخيط ومحيط.. وهروّلة وسعي يقُص أثر أقدام "هاجر" وهي تستشرف من الصفا قدوم قافلة منقذة.. فإذا انقلب البصر حسيراً أن يرى هروّلت نحو المروّة صاعدة لعل مُغيثاً يلوح.. حتى انبجس الماء فزمّته بكفين جزعين أن يغور.. وهكذا يسعى ويهروّل الحجيج تأسياً بقول "هاجر" اليقين: (.. إذن الله لا يضيعنا)! هذه الجملة الكون.. الجملة الحاسمة والمزيلة لحرج التسليم.. شهر ذي الحجة الذي وقّتت فيه الحركة مؤتمرها.. هو الشهر الذي أذّن فيه الخليل في سمع بني الدنيا بالحج ليأتوا من كل فجّ وكل وجهة وبكافة وسائل الارتحال نحو البيت العتيق. شهر ذي الحجة هو الشهر الذي حسم فيه الأواه الحكيم - الذي هو أُمّة - وسوسة الشيطان في أن يثنيه عن تنفيذ أكبر وأخطر قرار يتخذه والد في ولد وحيد!! فحسم الأمر ببضع (حصوات) رجم بهن الشيطان الرجيم، وهكذا يفعل الحجيج في كل عام. شهر ذي الحجة الذي فيه تلتقي جموع المنتمين لتيار الإسلام الحنيف في إطار الحركة الإسلامية السودانية، هو الشهر الذي قال فيه "إسماعيل": (يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصّابرين)، فإن لم يكن قالها يوم ذاك فهي التي جعلت الأضحية سُنة مؤكدة.. ليتذكر كل أعضاء المؤتمر معنى التسليم لرب العالمين وقدر التضحية في سبيل الدين!! ربما تسأل وماذا بعد والحديث عن الشهر يكاد يطول.. وأقول، الأمر واحد وذو ارتباط ومدلول.. الأمر في ذي الحجة أمر توحيد وعبادة بكل التسليم المطلق الذي يخلع الحرج في أداء مناسك الحج.. ترمى الجمار وكأن الشيطان يوسوّس لك وأنت الابن الذبيح.. أو أنت الأب الذي يتل جبين ابنه بعد أن شحذ السكين!! وكذلك ليتذكر أهل قبلة الحركة أن الانتماء لهذا الصف فيه ابتلاء جليل!! يصل إلى التسليم الذي ربما يقود إلى ابتلاء فادح عظيم!! ثم إن التوقيت لئن شمل كل أيام شهر ذي الحجة بالتحضير والتنسيق وإعداد المطلوب، فإن التوقيت قصد وباقتدار أن يكون في غرة المحرم.. وما أدراك ما المحرم.. وهو بداية الهجرة في عام يأتي أو قل تجديد الهجرة في مسام الأيام. الهجرة كانت وما تزال وستظل أبد الدهر نقطة الارتكاز الفاصلة في مسيرة السنين، والمؤتمر يأتي ليجدّد هجرة جديدة في مسيرة قادم أيامه، كما أرجو وأتأمل.. هجرة إلى عمل جديد يتسم برزانة ورسوخ الدعوة إلى الله.. ترسيخاً للدين في أفئدة الناس وتشع نوراً يضيء مسالك الباحثين على انتماء فيه سكينة ورضا وإيمان.. وكلمة تجمع صف الناس على هدى.. ومصافحة تعبُر بالناس من ضيق الانتماء إلى سعة ترفد الحركة بأفواج من الناس فتكون لهم فسطاطاً فسيحاً ومسيداً واسع الأرجاء.. يرى الناس حين يروّنهم البِشر والطلاقة وبشاشة الأصفياء.. فيصدّقون قولهم حين يحدثونهم ويستشرون بمقدمهم إليهم وينهلون من واسع معرفتهم وعلمهم وأدبهم. لهذا فإن لمعنى أن يكون المؤتمر في غرة محرم ذلك الارتباط بهجرة تعيد للحركة بداية هجرتها القاصدة. فالحركة الإسلامية ليست رقماً عادياً، وإنما هي قلعة راسخة الأقدام.. غنية بالتجارب والمعارك والتحولات.. ذات قدرة فائقة في التنظيم بدرجة تثير الإعجاب.. وذات ارتباطات محلية وإقليمية وعالمية. هي صاحبة تجربة طويلة في ترويض الظروف، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، فقد استطاعت وبقدرة فائقة أن تفك نفسها من قيد الانتماء الإقليمي والعالمي لتتيح لنفسها القدرة في الحركة وفق معطيات ومتطلبات ظرفها المكاني والزماني وقدرتها على الائتلاف والاتحاد.. والتوسّع في البنى التنظيمية وقت تشاء!! هي لم تسمح ل (طربوش) الإمام "حسن البنا"- رحمه الله - أن يحجب عن أهل الحركة من أهل السودان (عُمامة) الشيخ "علي طالب الله" و"محمد يوسف أحمد".. و"الرشيد الطاهر".. و"صادق عبد الماجد".. ود. "حسن الترابي".. و"الكاروري".. وغيرهم.. بل استطالت العمائم وأصبحت تيجاناً فوق رؤوسهم.. ولا أقصد في هذا التشبيه الشكل وإنما كل المنهج والمقصد.. لقد بدأت الحركة الإسلامية فتّية رشيقة الحركة واثقة الخطى.. قادرة على أن تصوغ لكل مرحلة أهدافاً ورؤية وبرامج ومسارات.. فلئن بدأت تنظيماً سرياً صفوياً.. واستفادت من هذه الخاصية خيراً كثيراً وخبرة واسعة وتجويداً منظماً، فقد ظلت تسعى في توسيع (الجلابية) التنظيمية وتحرص على عمامة لا تظهر (الطاقية) لتسع (الجلابية) كل مقاس.. ولم تتقيد (الجلابية) لا بخاصية الأنصار (على الله) أو جلابية الختمية ذات الياقة (الحِتّة) أو جلباب أنصار السنة الذي يكشف عن ساق بلقيس!! جلابية ماهلة تسع "حاج نور" رحمه الله بجسمه النحيل و"مهدي إبراهيم" صديقي العزيز بقامته الفارعة. هذا الجلباب السوداني مكّن الحركة في حرية الحركة من تنظيم الإخوان المسلمين إلى جبهة الميثاق الإسلامي.. إلى الجبهة القومية الإسلامية.. التي انفتحت على أركان السودان الأربعة.. ثم بعد الإنقاذ أصبح للحركة كيان فيه بعض ضباب وكيان له لافتة وتسجيل ومقر اسمه (المؤتمر الوطني)!! وعندها ومن يومها ظلّ السجال يطول ويتسع ويُلح في أن يجد إجابة يكون بعدها التسليم اليقين. كان السؤال البكر قد جابهني وأنا وزير للتربية والتعليم في يناير 1991م عندما طرحت وكالة النشاط التربوي السؤال حول الجمعيات بالمدارس، وكانت وقتها (جمعية الفكر الإسلامي) تمثل التنظيم في المدارس الثانوية.. هل تظل هذه الجمعية بهذا الاسم أم أن قرار تطبيق الشريعة يعني أن تكون كل جمعية هي من نبع الفكر الإسلامي؟ سيما أن الشريعة قد بسطت كل الأوراق أمام من يفكر ويكتب ما شاء في شأن الفكر الإسلامي!! وكانت الإجابة أن يدخل الفكر الإسلامي كل جمعية دون أن تسمّى جمعية الجغرافيا، جمعية الفكر الإسلامي للجغرافيا أو الرياضيات.. الخ.. هذا السؤال البكر ولّد - بعد أن تم قران وإشهار (المؤتمر الوطني) حزباً جامعاً - سؤالاً هو أقرب إلى سؤال في مسألة الميراث!! والسؤال الوليد هو: هل انتهى دور الحركة الإسلامية بقيام المؤتمر الوطني؟ وظل أهل الحركة وأهل المؤتمر الوطني يحاولون الإجابة عن هذا السؤال الجامح والقاصد.. واختلفت الإجابة بين فريقين: فريق يرى أن وجود الحركة الإسلامية تنظيماً مؤسسياً بكل أُسره وخلاياه وكوادره وأجهزته العلنية والسرية أمر بالغ الضرورة، لأنه هو الضمانة والقلب النابض لبقاء الإنقاذ وفعالية الحزب، المؤتمر الوطني، الذي تمده الحركة الإسلامية بنور المشكاة الربانية التي زيتها يضيء بنار القرآن دون سائر النيران.. وهي التي توجهه وجهة قِبل مشرق يعمّ نوره كل مفاصل الدولة وكذلك البيوت.. وتمسك (بلجام) مرن لا يحبس الخطى، ولكنه.. يبطئ بها دون تعويق!! وفريق يرى ما رآه الناس في بقاء (جمعية الفكر الإسلامي).. وهو أن تذوب الحركة في جسم المؤتمر الوطني وتظل تضخ فيه بلازما الدين والتدين وترفد عضويته بالعناصر المدرّبة والقادرة والمبصرة بتفاصيل الخطط والبرامج، وبذلك تتيح للمؤتمر الوطني أن يفك من فمه (لجام) التوجيهات.. ثم ينهض بين الفريقين مصلحون وأهل (الوسطية) الذين يريدون أن تبقى الحركة جسماً دعوياً خالصا ًوكأنه منطقة وسطى ما بين سلطة الحزب و(بَركَة) الحركة.. تدير المجتمع كفالة ووعظاً.. ويرون أن تكون في أحسن الحالات أن تتبتّل في السياسة وأن (تتسيّس) في الدين!! ثم تُودع في المؤتمر كل كوادر السياسة ليديروا المؤتمر أعضاء أصلاء فيه، فيختفي سهم أهل بدر في سداة قماش الحزب ويصبح الطلقاء لُحمة القماش.. ويصبح الجلباب بتفصيل ترزي السلطة!! وبركة الحِيران. غير أني أشهد في هذا الأمر بشهادة من عاش في الحركة عقدين من الزمان، وإن يعدّني بعضهم بأني من (الطلقاء) - ولهم حق في تاريخ الانضمام - وهم بعض قليل.. فإني أقر وأشهد الله أنهم قدموني أمامهم ولست بأفضل منهم، وساندوني بصحبة أعتزّ بهم ورفدوني بعلمهم وخبرتهم، بل سعوا مخلصين في نجاحي - إن نجحت في أمر - ولي في ذلك شواهد!! حين تم تعييني وزيراً للتربية والتعليم في 21/1/1991م وقابلت السيد الرئيس وخفت من تلك الوزارة التي لا أعرف أهلها وسبلها وفصول مدارسها، وأعلنت له ذلك فقال لي: (سنعينك بفريق من الخبراء)، وصدق كلام الرئيس، فقد قدمت لي الحركة الإسلامية أفضل كوادرها في حقل التعليم أذكر فقط منهم د. "أبو شنب" و"مبارك قسم الله" و"عبد السلام سليمان" و"عبد الباسط عبد الماجد" و"سلمان محمد سلمان".. وغيرهم، وكانوا خير صحبة ورفاق!! وكذلك فعلت الحركة الإسلامية معي عند انتقالي لوزارة الإعلام!! إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك.. ارتخت يد الحركة في التوجيه وانشغلت الصفوة من كوادرها بما تشعّب من قضايا السلطة، وبدأ النور الباهر من مشكاة الحركة يخفُت ويختفي ويتبعثر، وخفت التوجيه وبدا في الأفق فراغ.. والدنيا لا تقبل مطلقاً ولا تسمح لمساحة الفراغ أن تطل بلا شاغل!! من هنا تجيء شهادتي لتفصل بين الفريقين، ولهذا أكتب اليوم والمؤتمر يبدأ اليوم في غرة المحرم هجرة جديدة تأخذ من كل فريق بنصف ما في كوب مقترحهم من حق.. وأرى أن تهاجر الحركة الإسلامية منذ اليوم لموقعها الحاكم في تسديد التوجيه من موقع الإمام وليس المأموم، موقع المُمد والمُعين والموجّه لكل الأجهزة بتوفير أخلص كوادرها للمؤتمر الوطني وأفضل مفكريها لإنهاض الفكر في الحزب، وأن يتفرّغ من كوادرها من يُحسن شأن التنظيم في تنظيم الحزب وأن يوقدوا من جديد (تقابة) الفكر التي خمدت نارها منذ سنوات منذ أن توقف المركز القومي للإعلام عن نشر رسائل الفكر، وكان خلية ناشطة بشؤون النشر والكتاب!! انعقاد المؤتمر هذا ليس للبحث حول بقاء الحركة جسماً دعوياً بلا مسؤولية مجتمعية وسياسية، أو أن يقبض على جمر كل المسؤولية بكف الحركة الديني والسياسة كلها بكف آخر!! انعقاد المؤتمر هجرة تجديد نحو التراث الخالد الذي أرست الحركة الإسلامية فيه فقه الممكن والمرجو والآتي وتحديداً البناء التنظيمي المحكم الذي يفتقده المؤتمر الوطني. لتكن شراكة تنثر الحركة فيها تقاوي الإخبات والورع في أجهزة المؤتمر الوطني التي تحتاج كذلك لري يتصل من ماء الحركة المبارك منتظم الجريان. لتكن الهجرة من أهل بدر ليجسّروا فجوة التحام الطلقاء بأهل بدر ويكون الدين طُهر السياسة وتنبع السياسة من نبع الدين.