زاملت شخصا كان يسمى (حسين أورنيك)، وبصراحة لم أكن أعرف سبب كلمة (أورنيك) الملحقة باسمه، وكنت أظنها لقبا لوالده، فإذا بالأيام تمر، وأصادف أحد الأصدقاء في مناسبة بعيدة عن جو العمل، ليكشف لي سر التسمية الغريبة . زميلنا حسين، كما كشف لي الصديق، كان متخصصا في الإجازات المرضية، فبعد أن يستنفد إجازاته المتاحة له حسب اللوائح، يبدأ الدخول في الإجازات الاستثنائية، وممارسة الأعذار و(الزوغان)، فإذا تم محاصرته من رؤسائه .. لجأ إلى الأرانيك المرضية، فلا يمر شهر أو شهران .. إلا ويكون صاحبنا قد تمتع بإجازة مرضية تمتد في أقصر مددها إلى يومين، وقد تستمر لمدة أسبوع كامل حسب (الحالة) . كان هذا قبل عقود طويلة، ولا أعرف ما فعلته الدنيا بصاحبنا فيما بعد، لكن ما أذكره .. أن الكثيرين كانوا جاهزي الأعذار في الغياب والتأخر، وكم من حالة غياب عن العمل كانت تتم بسبب وفاة (مزعومة) لأحد الأقارب، في حين يكون صاحبنا الغائب منغمسا في جلسة كوتشينة حتى النخاع، بعيدا عن غم العمل وتعاساته ! عموما، الحالة ليست سودانية خالصة، ويبدو أن الكثيرين حتى في أمريكا .. ميالون للهروب من العمل، ومتمرسون في اختلاق الأعذار للتمتع بإجازات دون وجه حق ! في هذا الصدد، ذكرت بعض أخبار الأمس .. أن مسحا أجرته شركة توظيف عمالة .. كشف أن عددا كبيرا من العاملين الاميركيين مستعدون للكذب للغياب عن العمل، باختلاق حالة وفاة في الاسرة، او ادعاء الاصابة بمرض، او الاعتذار بالاستدعاء للقيام بواجبهم كمحلفين في أعمال المحاكم. واظهر المسح الذي أجرته مجموعة اديكو امريكا الشمالية .. ان 26 بالمئة من العاملين الذين شملتهم العينة حصلوا على إجازة بعد الابلاغ عن حالات وفاة، و27 بالمئة ادعوا أنهم مطلوبون للاضطلاع بمهام المحلفين. وكشف الاستطلاع الذي اجري من خلال الهاتف ان 47 بالمئة من العاملين الدائمين قالوا انهم اتصلوا للابلاغ عن مرضهم كسبب لتغيبهم عن العمل. والمصيبة ليست فقط في المراوغة واللجوء للكذب، بل المصيبة الأكبر أن الآخرين يعرفون هذه الأكاذيب، ولكن لا أحد يكترث، فقد أظهر المسح الذي بثت أخباره (رويترز)، وشمل 522 موظفا دائما، انه حين يتصل احدهم للابلاغ عن مرضه فإن 72 بالمئة من زملائه يكونون على ثقة بأنه يكذب ! وللذين يأسفون بأن الخدمة المدنية في السودان قد تم اكتساحها ببنات حواء، فقد أظهر الاستطلاع ان احتمال ادعاء الرجل بوجود حالة وفاة للتغيب عن العمل يزيد مرتين عنه بالنسبة للنساء، ما يعني أن النساء أكثر انضباطا، وأشد صبرا على العمل .. على عكس ما يدعيه البعض من أبناء آدم السودانيين ! الطريف في الأمر .. أن الغيرة النسائية لا تغيب حتى في جوانب العمل، فقد أظهر المسح أن ربع النساء المشمولات بالبحث يشعرن بالغيرة حين يغادر زميل العمل مبكرا لأي عذر يختلقه ! طبعا ما يجري في أمريكا لا يهمنا إلا بمقدار ما يحمل الدلالات انعكاسا على حالنا، ولا أدري إن كان الناس على شاكلة (حسين أورنيك) ما زالوا موجودين في الساحة، في زمن لم تعد فيه دراهم الخدمة المدنية .. تكفي للعاملين ليومين أو ثلاثة أيام .