السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وعن مصطفى مدني أحدثكم!
نشر في النيلين يوم 14 - 09 - 2013


(1)
كان شرفاً عظيماً لي أن أشارك، أمسية السَّادس من فبراير الماضي (2013م)، في الاحتفال بتدشين مذكرات أستاذي وصديقي سعادة السَّفير العتيد مصطفى مدني، الموسومة ب "حديث الذكريات: ثلاثون عاماً في الدِّبلوماسية"؛ بل لعلني لا أغالي، البتَّة، إن عددتُّ الأمسية، بالحق، سانحة نادرة ظللت أتحيَّنها، على مدى السَّنوات الثَّلاثين الماضية، كي أقول لهذا الرَّجل الكبير، أمام كلِّ ذلك الجَّمع الكريم الذي ضاقت به جنبات قاعة النادي الدِّبلوماسي بالخرطوم: شكراً، إنني ممنون لك .. ممنون لنبلك، وحدبك، وشجاعتك!
مع ذلك كان أسفي وحزني عظيمين، بالمثل، كون تلك السَّانحة لم تؤاتِ، حين آتت، إلا في غياب صديقينا طيِّبَي الذِّكر حسن النور عثمان، المساعد السَّابق للأمين العام للجَّامعة العربيَّة، وسيد احمد الحردلو، الشّاعر القاص، والسَّفير السَّابق بوزارة الخارجيَّة، فلطالما تمنَّيت أنْ لو كانا حاضرين، وقتها، ليسمعاني أقولها، سوى أن الأعمار بيد الله، ولكلِّ أجل كتاب، عليهما واسع الرحمة، ولهما موفور المغفرة.
أما موضوع شكري وامتناني فقصَّة أومأ إليها صديقي الشاعر والسَّفير السَّابق محمد المكي إبراهيم في مقدمته الضَّافية للكتاب، مشيراً إلى أن السَّيد مصطفى قد استبعدها من مذكراته، كونه رأى في إيرادها نوعاً من المنِّ والأذى لا يليق (ص 19). لكنني رأيت أن إيرادها في مناسبة كتلك، والأمر أمر ذكريات، إنَّما يليق، من كلِّ بُد، بمن امتدَّت إليهم أياديه البيضاء مثلي، بل ويتوجَّب.
(2)
وأصل الحكاية أننا، المرحوم حسن وشخصي، كنا تخرَّجنا، أوائل سبعينات القرن المنصرم، في كليَّة القانون الدَّولي والعلاقات الدَّوليَّة بجامعة كييف. لكن تأهيلنا ذاك لم يشفع لنا حين تدخلت عوامل ذلك الزَّمان السِّياسيَّة المعلومة لتحول دون التحاقنا بالخارجيَّة. غير أن حسن صارع حتى التحق بالجَّامعة العربيَّة، أما أنا فأخذتها من قصير، وعدتُّ، ابتداءً، لمهنة الصَّحافة التي سبق لي أن عملت بها، أصلاً، في خواتيم السِّتِّينات، قبيل سفري للدِّراسة بجامعة كييف، ثمَّ تحوَّلت، بعد ذلك، للانخراط في سلك المحاماة.
تعرَّفت، أوان ذاك، إلى السَّيِّد مصطفى الذي كان صديقاً لآل النور عثمان بأم درمان، وقد ربطتني بهم، أنا أيضاً، علائق وطيدة بحكم صداقتي، منذ أيَّام الطلب، مع حسن وأمين، عليهما رحمة الله الذي نسأله الرحمة، أيضاً، لعثمان وبابكر وعمر وعلي ومحمد، فالتقينا على مودَّة صافية تحت سقف عشرتهم الرَّائقة، وفي رحاب أخوانياتهم الهفهافة. وكان السَّيِّد مصطفى والمرحوم حسن يريان، برغم احترامهما للمحاماة، أن المهنة التي تكافئ المؤهِّل حقٌّ ينبغي على المرء ألا يقنط من الإلحاح في طلبه. فما زالا بي يحثَّانني حتى تقدمت، أواخر 1982م أو مطالع 1983م، إن كنت ما زلت أذكر جيِّداً، بطلب للالتحاق بالجَّامعة العربيَّة التي أبدت موافقتها المبدئيَّة، لكنها، وكما كنَّا نتوقَّع، طلبت استكمال أوراقي بالمستند الوحيد الذي لم يكن ثمَّة سبيل أمامي إليه: عدم ممانعة الحكومة، أو ما يُعرف بال none – objection!
كان السَّيِّد مصطفى قد صار، وقتها، وزير دولة بالخارجيَّة، من سنخ الوزراء الذين تحملهم إلى مثل هذه المناصب، في العادة، تكنوقراطيَّتهم القحَّة، وليس ولاؤهم، بالضَّرورة، لنظام الحكم. فقام صديقي المرحوم سيد احمد الحاردلو، وكان يشغل وقتها منصب مدير الإدارة العربيَّة في الوزارة، بإعداد المستند المطلوب، وتبقى، قبل توقيع السَّيِّد مصطفى، اجتياز عقبة كؤود تمثَّلت، إذ ذاك، في موافقة جهاز أمن النميري! لكن الفارس النَّبيل طلب وضع المستند أمامه للتَّوقيع، مباشرة، دون انتظار إجراء كان متيقناً من كونه محض باب لكيد حزبي لا مصلحة للوطن فيه!
ما حدث بعد ذلك أشعرني بحرج بالغ؛ فقد كان على السَّيِّد مصطفى أن يحضر، ذات صباح باكر، اجتماعاً طارئاً خارج الوزارة، ولم يكن قد وقَّع، بعد، على المستند المحجوز لديه بالمكتب، بل وداخل حقيبة أوراقه التي كان يظنُّ أن فتحَها غيرُ ممكن إلا بأرقام لا يعلمها غيره! لكنه، عندما عاد من الاجتماع فوجئ بأن الحقيبة قد فتحت، وأن المستندات قد أخذت، ثم ما لبث مكتبه أن استلم، في آخر اليوم، خطاباً سرِّيَّاً من الجِّهاز، يرجوه فيه، بنبرة لزجة التَّهذيب، ألا تصدر الوزارة أيَّ مستند بخصوص استخدام أيِّ مواطن في منظمة إقليميَّة أو دوليَّة، قبل أخذ رأيهم!
قلقت أيَّما قلق عندما تصوَّرت إمكانيَّة ألا يقف الأمر عند ذلك الحد، وأن يتطور إلى ما لا تحمد عقباه، بأن يمسَّ، بسببي، هذه القامة السَّامقة، لكن ما أدهشني، حقاً، رغم أنه كان لديَّ ما يجعلني أتوقع ذلك، هو صلابة السَّيِّد مصطفى الذي أبدى، في ذلك الموقف، من عزَّة النَّفس وقوة الشَّكيمة الكثير، فلم يعط الأمر أدنى وزن يتجاوز محض الأسف النبيل على ضياع فرصتي تلك. أما في ما عدا ذلك فقد اكتفى بالسُّخرية اللاذعة من هاتيك البهلوانيَّات الغبيَّة، بينما الابتسامة الرُّباطابيَّة الذَّكيَّة تكاد لا تفارق محياه الوضيء!
(3)
في الجزء الآخر من كلمتي ألمحت إلى ندرة الكتب التي نأوي إليها أوَّل المساء، فلا نُطيق عنها فَكاكاً حتى نفرغَ من قراءتها مع شقشقات الصَّباح الأولى. وأشرت إلى أن كتاب السَّيِّد مصطفى الذي اجتمعنا ندشن، يومها، صدوره لمن هذا الصنف يقيناً. ورغم الاختلاف المنهجي بينه وبين كتاب "تاريخ حياتي" للشَّيخ الجَّليل بابكر بدري، والذي نعدُّه مرجعاً معياريَّاً في باب تدوين المذكرات، إلا أن كتاب السَّيِّد مصطفى جاء، على طريقته الخاصَّة، سفراً متميِّزاً يذخر بالكثير من الأحداث، والمعلومات، والانطباعات التي ربما تنشر، على الملأ، لأوَّل مرَّة، والتي تراوح بين فرادة التَّجربة الإنسانيَّة، وثراء الخبرة المهنيَّة، فضلاً عن جزالة لغته، وسلاسة أسلوبه، ورصانة صياغته، فلا تدري في خانة التاريخ تصنفه، أم السِّياسة، أم الاجتماع، أم الأدب. ولأن مشمولاته تجلُّ على الاختزال في كلمة قصيرة، فقد اخترت أن أقتصر على إضاءة مسألتين على قدر من الأهميَّة الخاصَّة.
(4)
فأما المسألة الأوَّلى فإنما تتَّصل بالتَّكوين الشَّخصي للمؤلف، حيث أورد، ضمن كلمته التَّمهيديَّة، أن واشياً "هماماً" بوزارة الخارجيَّة كتب، ذات يوم بعيد، تقريراً سرِّيَّاً غمز فيه على السَّيِّد مصطفى بأنه "فتى الخارجيَّة المدَّلل"، فاستنكف شيخ شعراء الشَّعب، محمد المهدي المجذوب، أن يرى ذلك البصَّاص غرابة ما في الأمر، فوصفه بأنه ".. شخص لا يميِّز بين الناس .. وعليه أن يتذكر أن صديقنا مصطفى مدني .. أتاحت له ظروف التَّحصيل العلمي التَّنقل بين الثَّقافات والحضارات المختلفة، فتفاعل معها .. فكان من الطبيعي أن يكون موضع اهتمام الخارجيَّة" (ص 9 10).
وبدا لي أنه، لو جاز أن أضيف إلى كلمات المجذوب القديمة تلك شيئاً، بعد أن أزاح السَّيِّد مصطفى السِّتار، في مذكراته هذه، عن الكثير المثير مِمَّا كان خافياً من الوقائع والأحداث، لقلت: ليس التَّحصيلَ العلميَّ وحده ما شكل شخصيَّة الرَّجل، بل لا بُدَّ من الأخذ في الاعتبار، أيضاً، بذلك الأفقِ المعرفيِّ شديدِ الاتساع، متعدِّدِ الألوانِ، مِمَّا أتيح له أن يرتع في جنبات سوحه، وأن يتبحبح في أكناف مقاصده، ومن ذلك:
(1) الأحاجي التَّربويَّة ثريةِ الخيال، عميقةِ المغزى، والتي لطالما كانت أمُّه زينب محمد نور تهدهد بها طفولته (ص 27 28)، فضلاً عن الزِّيارات الدَّوريَّة، كلَّ عيد، إلى كرري، بصحبة والده وعمِّه عوض الكريم، يصلون ركعتين، ويقرأون الفاتحة على أرواح الشُّهداء، ويستذكرون طرفاً من قصص الثَّورة، وبعضاً من رسائل الإمام، ويصف عمُّه المسالك بين القبور بالصِّراط المستقيم الذي يقود الأجداد الشُّهداء رأساً إلى الجَّنَّة، ثمَّ يعود ثلاثتهم ليؤدوا صلاة العيد في جامع الإمام عبد الرحمن بود نوباوي، حيث يوضع مصطفى الصَّغير في الصَّف الأمامي، يرى ويسمع الإمام يتلو "إذا جاء نصرُ الله والفتح"، والدَّمع يسحُّ على وجهه ولحيته المهيبة، فتسري في عروق ابن السَّادسة قشعريرةُ التَّقوى الباكرة (ص 31)؛ فليس من عجب، إذن، أن يتنشَّأ على فضائل هذا الدِّين. إن تلك التَّربية التي درج عليها غالب المستعربين المسلمين في بلادنا لأبنائهم وبناتهم هي التي غرست في نفوس أكثرهم قيم الإسلام الحقَّة القائمة، من جهة، في محبةَ الطهر، والعفَّة، والأمانة، والشَّجاعة، ونظافة اليد، والصِّدق في المعاملة، والإخلاص في العمل، ومن جهة أخرى في كراهة الظلم، والفساد، والغشِّ، والكذب، والنِّفاق، والجُّبن، وأكل أموال الناس بالباطل.
(2) ذكريات ألعاب الطفولة بشارع العرضة شديد الاتساع والنظافة، أوان ذاك، بدءاً بكرة الشراب في الأصائل الدَّبقة، وانتهاءً ب "شليل" في الليالي المقمرة، تُحدِق بهم بيوت أهلهم الرُّباطاب (ص 31 32)، في مدينة كانت لمَّا تزل، بعد، على ذات خصائص نشأتها الأولى، محضَ فكرة في ذهن الإمام وخليفته، وقد ركل الثُّوار لأجلها مدينة التُّرك، وتدافعوا يعمِّرون أحياءها على مبدأ سلاسة التَّعارف، فالتَّوادد، تأسيساً لوحدة الجَّيش في احترام تنوُّع الرايات، وتعدُّدها، حيث كلُّ راية في "البُقعة" تمثل تكويناً قوميَّاً متميِّزاً.
(3) انتماء السَّيِّد مصطفى الباكر إلى الحركة الشِّيوعيَّة السُّودانيَّة، وهي في طور "حستو" أوان ذاك، حيث رسبت عميقاً، في عقله ووجدانه، أفضل ما فيها من مبادئ، وعلائق، حتى بعد مغادرته صفوفها، ويستطيع حتَّى المتصفِّح العجول للكتاب أن يلتقط صوراً من تأثُّره بتلك المبادئ، ووفائه لتلك العلائق، من خلال تثمينه العالي لجوانب من نضالات تلك الحركة، وتقديره الرَّفيع لبعض قادتها التَّاريخيين، كعبد الخالق، والتجاني، والوسيلة، وقاسم، وكامل محجوب، وإبراهيم زكريا، وغيرهم (ص 50 51).
(4) الأحداث الجِّسام التي أحاطت بدراسته الجَّامعيَّة نفسها، قبل استقراره بكيمبردج، وذلك نتيجة لنزعته اليساريَّة المتمرِّدة منذ صباه الباكر، والتي رفضته، بسببها، جامعة بلاده "كليَّة غردون"، مثلما طردته الجَّامعة الأمريكيَّة ببيروت، حيث تعرَّض للاعتقال، فشكلت تجربة الدِّراسة، ثم السِّجن، مع بعض عتاة أصدقائه الثَّوريين، كجورج حبش وشفيق الحوت، ليس فقط إحدى مغامراته اليساريَّة ذات الأثر والخطر، بل أحد أهمِّ المحطات التَّعليميَّة عبر مسيرته الإنسانيَّة، والفكريَّة، والمهنيَّة (ص 57 70).
(5) شغفه بالأدب عموماً، وبالشِّعر خصوصاً. وواضح من تجاربه الباكرة في نظم القريض على أيَّام مدرسة الأحفاد أن ذلك الشَّغف لم يقتصر على التَّذوق، فحسب (ص 41 50). وعلى العموم فإن المزاوجة بين الأدب والشِّعر، من ناحية، وبين العمل الدِّبلوماسي من ناحية أخرى ظلت، دائماً، ديدن الرُّموز الكبيرة في الدِّبلوماسيَّة السُّودانيَّة، ابتداءً من مؤسِّسها الأوَّل محمد احمد محجوب، مروراً بيوسف مصطفى التني، وجمال محمد احمد، ومن أعقبهم بإحسان، كسيد احمد الحاردلو، ومحمد المكي إبراهيم، وصلاح احمد إبراهيم، وعمر عبد الماجد، وعبد الهادي صديق، وخالد فرح، وجمال محمد إبراهيم، وغيرهم. ولعل أوَّل ما تلتقط العين، ولو بمحض نظرة عجلى إلى صفحات الكتاب، كثرة المقاطع الشِّعريَّة المبثوثة بين فقراته، حيث تتردَّد إلى جانب الشُّعراء السُّودانيين أشعار الشُّعراء العالميين والعرب، كنيرودا، والمعرَّي، والجَّارم، وأبي ريشة، ونزار، ودرويش، وغيرهم. ولأن الثقافة، في قول جمال محمد احمد الذي يستشهد به المؤلف، هي الدَّواء الناجع لكلِّ قنوط السِّياسة، ولأن السَّفير ليس مجرَّد ممثِّل سياسي لبلاده، وإنما رسول لكلِّ ما تحمل من تاريخ وثقافة، فقد سجَّل السَّيِّد مصطفى ببيروت، أوان عمله سفيراً هناك، حضوراً في كلِّ أوساط ودوائر الأدباء، والشُّعراء، والمفكرين، والفنانين، والصَّحفيين، تعينه على ذلك طبيعة العهد الدِّيموقراطي الثاني (أكتوبر1965م مايو 1969م) الذي أكسب حُضوره ذاك حيويَّة دافقة (ص142).
(5)
وأما المسألة الثانية، فتتصل بما للسَّيِّد مصطفى، أيضاً، من احتفاءٍ كبير بالانتباهات والتَّحليلات السَّديدة، كما وبالكشوف الثاقبة، والتنبُّؤ باتِّجاهات الرِّياح السِّياسيَّة، ومساراتها المستقبليَّة، سواء صدر ذلك منه شخصيَّاً، أو من أيِّ مصدر آخر. ومن نماذج ذلك في الكتاب:
(1) ملاحظته الصَّائبة أن "وزارة الخارجيَّة هي الوزارة الوحيدة التي أسَّسها السُّودانيون بأنفسهم دون الوزارات الأخري التي ورثها الحكم الوطني عن الحقبة الاستعماريَّة البريطانيَّة" ص (73).
(2) إشارته المدهشة إلى أن الإرهاص بمسألة "الحقيقة والمصالحة"، كمنهج أساسي للتَّسوية التَّاريخيَّة في جنوب أفريقيا، أواسط تسعينات القرن المنصرم، من جهة، وإحدى أهمِّ مترتِّباتها من جهة أخرى، إنما تعود بأصلها إلى مؤتمر أكرا عام 1958م، حيث قال الأفارقة، منذ ذلك الوقت الباكر، "إننا حين نحصل على استقلالنا فلن نعامل قادة الفصل العنصري بأثر رجعي" (ص 83)
(3) إبرازه، بوجه خاص، لمسألة العلاقات الأردنيَّة الفلسطينيَّة، من بين كل وقائع حديثه المطوَّل مع القائد الفلسطيني جورج حبش الذي كان رافقه بالسِّجن، وقبل ذلك بالجَّامعة الأمريكيَّة ببيروت، على أيَّام دراسته القصيرة فيها أواخر أربعينات وأوائل خمسينات القرن المنصرم، والذي جاء يزوره بالفندق عندما تمَّ تعيينه، أواخر السِّتينات، سفيراً للسُّودان في لبنان وسوريا والأردن، مقيماً بلبنان. يومها، وعلى الرغم من رأي "الحكيم"، وذاك لقب حبش، بأن الطريق لتحرير فلسطين إنما يمرُّ عبر تحرير عمَّان، مثلها مثل غيرها من العواصم العربيَّة الرَّجعيَّة، إلا أنه لم يتردَّد في أن يحمِّل السَّيِّد مصطفى رسالة إلى ياسر عرفات، زعيم منظمة "فتح" الذي كان موجوداً بعمَّان، كي يوجِّه شبابه بالكفِّ عن التصرُّف الخطر وكأنهم دولة داخل الدَّولة، مما سيفقدهم تعاطف الشَّعب الأردني، بل وسيدفع الملك للاستعانة عليهم بأنصاره من البدو في الجَّيش الأردني. وبالفعل، ما هي سوى أشهر قلائل حتى حشد الملك جيشه ليشنَّ، في سبتمبر 1970م، مواجهة أشبه بالمذبحة ضدَّ المقاومة الفلسطينيَّة، وضدَّ عرفات شخصيَّاً (ص 162 165).
(4) تحليله لعوامل انهيار الوحدة بين مصر وسوريا (1958م 1961م)، حيث عزا أهمَّها، برأيه، إلى الحالة النفسيَّة الناجمة، في الشَّارع السُّوري، باتِّجاهين في غاية الخطورة: فمن ناحية عكف بعض المثقفين هناك على إبراز الجَّوانب السَّلبيَّة للتَّواجد المصري في سوريا، وترديدهم الحديث عن التَّفاوت بين الثَّقافتين، حتَّى في ما يتصل بالدُّعابة المصريَّة التي روَّجوا لكونها لا تلقى استجابة في الأذن السُّوريَّة! أما من الناحية الأخرى فقد شاع في سوريا التوقع الخاطئ بأن يكون كلُّ مصري يجئ إلى دمشق صورة طبق الأصل من عبد الناصر الذي جعلوا من شخصيته الكارزميَّة مقياساً للشَّخصيَّة المصريَّة (!) ولما كان ذلك مستحيلاً فقد وقعت خيبة الأمل التي مهَّدت لانهيار الوحدة (ص 122).
في الختام: كان لا بُدَّ لي من تكرار التأكيد على استحالة اختزال سفر كهذا في مثل هذه الكلمة القصيرة، وإنما رميت، فحسب، إلى خلع طاقيَّتي، وإحناء هامتي، في ذلك الاحتفال البهي، تحية للرَّجل، وتقديراً لعمله القيِّم الذي أكاد أبصر من وراء حُجُب الزمن القادم أنه سيكون، بإذن الله، كتاباً لكلِّ الأجيال، ولن يكون ثمَّة غنى عنه لأيِّ دبلوماسي، أو مؤرِّخ، أو باحث، أو أديب، أو شاعر، أو صحفي.
الكاتب : كمال الجزولي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.