عندما يذكر لفظ (فساد)، تتجه الأذهان إلى العاملين في القطاع الحكومي وباعتقاد خاطيء يظن الكثيرون أن الفساد محصور أو مقصود به بعض موظفي الدولة ممن قد يختلسون أو يسرقون أو يحصلون على الحوافز والبدلات.. ولتوضيح أن الأمر ما هو إلا ملكية فكرية للقطاع الخاص بأنواعه المختلفة سواء أكانوا عصابات للتجارة أو التمويل خارج النظام المصرفي أو تجار الدولار أو تجار عربات أو مجموعات نهب وسلب (ناعم وخشن) نقول إن ما يفعله موظفو الدولة لا يزيد عن كونه قطرة في بحر، وحبة رمل في الصحراء. وهاكم هذه القصة: تحدثت مجالس الخرطوم عن عصابة ذكية، أعضاؤها متعلمون، مثقفون لهم قدرات ومَلَكات وفنون في التعامل مع أدوات وتقانات العصر الحديث، تخصصت هذه المجموعة في فن (التزوير)، منهم علماء في مجال الالكترونيات وإخراج الشهادات والإفادات بطريقة (ما تخُرِّش الميَّة)، ومن بين أعمال هذه المجموعة أنها تحصلت مؤخراً على ورق مروَّس لأحدى المؤسسات الخاصة العاملة في مجال حيوي ومهم، ولهذه المؤسسة حسابات في بنوك محترمة.. وأرصدتها (تَقْنِتْ) لأنها مليئة بالتوريدات الكثيرة واليومية ورصيدها اليومي مليارات عديدة وبصفة يومية.. والمجموعة استطاعت أن تحصل على عينة من توقيعات المسؤولين عن إدارة حسابات هذه المؤسسة.. وقامت بإعداد خطاب أو خطابات قبل ذلك تطلب من البنك أن يحول من رصيد المؤسسة مبالغ ضخمة جداً وخيالية جداً وبمئات الملايين من الجنيهات وأن يتم التحويل إلى أحد فروع البنوك في ولاية أخرى وبمدينة وسطية في الولاية المجاورة للخرطوم وقامت العصابة بكتابة الطلب وباللغة الانجليزية وزوَّرت التوقيعات وطلبت تحويل هذه المبالغ الضخمة إلى حساب شخص محدد يعمل ضمن فريق العصابة.. وبالطبع قام البنك بإجراء اللازم نحو التحويل المطلوب مستجيباً للطلب الموقَّع من الجهات صاحبة الحساب، وذهب عضو العصابة إلى الفرع الذي تم فيه التحويل وجلس بين العاملين هناك واستقبله المدير بكل الترحاب والبشاشة، فالرجل تبدو عليه مظاهر الصلاح والتقوى ويلبس الجلابية (بيضاء ومكوية) والعمة والشال والمركوب والعصاية وتفوح منه روائح عطور (سان روشاص) الفرنسية وقام بإمامة المصلين من موظفي البنك لصلاة الظهر وسحب المبلغ المحوَّل ووعدهم بأن مبالغ أخرى مليارية في طريقها إلى هذا الفرع النائي!! ومثل هذه الأعمال (ملكية فكرية) للقطاع الخاص لا يقدر عليها موظفو الحكومة ولا مجال لأن يتعرفوا على دهاليزها.. وفساد القطاع الخاص في منظومة الدولة هو ما يجب التركيز عليه. ونلخص أوجه هذا الفساد إجمالاً في الجوانب الآتية: أولاً: وجود مجموعات للتمويل خارج الجهاز المصرفي تتخفى تحت بيع الدولار والريال واليورو وتعمل على الإيقاع بالكثيرين من رجال الأعمال وأبنائهم وترمي شباكها حول (المزنوقين) ليقعوا في حبائلها ولا يخرجون منها إلا بتصفية شركاتهم وممتلكاتهم ويصبحون ضيوفاً على السجون ويبقى حتى السداد. ثانياً: وجود كارتيلات تخصصت في بيع الأموال المرهونة والمعلن عنها في المزاد العلني بعد أن فشل المدينون في دفع استحقاقات البنوك أو ثَقُلَتْ عليهم مديونيات العصابات المتخصصة في تجارة العملة بأنواعها. ثالثاً: وجود كارتيلات تقوم بتزوير الأوراق الثبوتية مثل البطاقات والشهادات والإفادات واستعمالها في مجال تزوير تخصيص الأراضي والحصول على أموال غير مشروعة أو الحصول على امتيازات ورخص وإعفاءات، ويشمل هذا كل طالبي الامتيازات سواء أكانوا مغتربين أو مقيمين أو حتى مستثمرين من الخارج. رابعاً: وجود كارتيلات تعمل في مجال التسهيلات و(المخارجات) والتصديقات وتدَّعي أن لها نفوذاً وعلاقاتٍ بالدولة والنافذين فيها أو أن لها سلطة وكلمة مسموعة عند متخذي القرار الاقتصادي.. كل هذه المجموعات الظاهرة ومجموعات أخرى لا تظهر في العيان ولكنها تؤثر في البنية الاقتصادية للمجتمع تقوم بأعمال تخريبية تحتاج من الجميع إلى وقفة جادة واتخاذ التدابير الرادعة، ودعونا نقول إن علينا أن ننظر إلى الفيل ونطعن فيه مباشرة بدلاً عن الطعن في ظله، وفساد موظفي الدولة يتوارى خجلاً أمام فساد القطاع الخاص وما يظهر من فساد العاملين بالدولة مثله مثل جبل الجليد الذي يظهر رأسه ويتوارى جسمه و(اللي يشوف فساد غيرو يهون عليهو فسادو)..! الكاتب : د. عبد الماجد عبد القادر