السابع عشر من يناير؛ ميقاتٌ ليس كغيره من مواقيت الزمان، ففيه تتغير ملامح الابتهاج بمقدم عام جديد إلى ملامح الشقاء والفقد عند أناسٍ تملك وجدانهم الكلم الجميل واللحن المترف بالعذوبة والأداء الذي يسمعون صداه كل ما عبث الزمن بذائقتهم الفنية، وهم الذين عشقوا ذاك الفن الذي اكتسى كثير وسامة وكل جمال في زمان مضى. تاريخٌ موسومٌ عندهم بالحزن على أرواح اتفق عليها حبُهم وراهن عليها زمانُهم، في معانٍ لم تكن كغيرها، وقيمة يؤمنون تماماً أنها أضافت لهم الكثير. ربما اختلف الجيلان اللذان أعلنا حبهما لإنسان ارتضوه ملهمهم، وقبلوا به مصوراً لإحساسهم وقريباً منهم، إلا أنهم اتفقوا في أن كل واحد منهم قد أصابه الزمن بجرح لا يُعلم مداه، واتفق ذات الميقات في أن اجتث زهرة حلمهم التي لا يتوانون في سقيها من عاطفتهم التي تفيض محبة وانتماء، في تجسيد لمفاهيم المشابهة الإنسانية والقيم المتأصلة في ذواتهما والتي تشكلت بحب الناس واتصفت بدوزنات تبادل الحب والوفاء. ترك رحيل الفنان مصطفى سيد أحمد في السابع عشر من يناير للعام 1996 حزناً وسط عشاقه ومحبيه، ربما لأنه ارتبط عندهم بحب الوطن وعشق التراب، إذ حمله بينه واختار له مكاناً مقدساً في داخله، احتقنت دماؤه بعاطفة الأرض، حمل همه وهم الناس فيه، فحمله منجلاً مع المزارع والتربال، وقال في حقهم من قصيدة (طيبة) ل (حميد): أريت غنواتي في ناس شغالة تكون سندالة وعود طورية ولبِسه أبرول مع (الصنايعية)، التفّ حول العمال، غنّى لهم وغنّى معهم في اتصال روحي أصيل، وفي تداعي النفس الطيبة والأرض: كانوا إخوان في الإنسانية قعدت معاهم.. واتفاكرنا كم لفّينا.. وكم ساهرنا وكم مازحنا ليالي الصيف حمل بداخله هماً أكبر ربما على جبال الأرض أن تحمله؛ همّ أن يصبح هذا البلد، أمناً سخاءً رخاءً، وينعم إنسانه بخيراته. مرت السنون وبدأ المرض يصارعه البقاء، دارت بينهما المعارك وكان في كل مرة ينتصر عليه ويعود يحمل فنه ويغني للناس كأنه يقول: "لن يهزمني المرض وها أنا أعود إليكم من جديد". إلى أن أتاه غادراً في حين غفلة ليفارق الحياة والناس الذين أحبوه كان ذلك في السابع عشر من يناير للعام 1996، وكأنما غيمة حزن حطت برحالها على السودان.. ولم تجد مكاناً آخر. حوى رصيده قاعدة جماهيرية عريضة، في شتى أنحاء الوطن، وقبل وصول جثمانه قادماً من الدوحة؛ ظل الناس مرابطين في مطار الخرطوم لساعات طوال، في مشهد مهيب يستنطق الضخرة الصماء، في انتظار إنسان أحبوه وأحبهم وأصبحت علاقتهما لا تقبل المجادلة. ظل ذات الحشد يسير خلف جثمانه حتى وصوله (ود سلفاب) على مرأى كل قرى ومدن الجزيرة الواقعة على طريق الخرطوم - مدني، لإلقاء نظرة الرضا والعرفان على جثمان فقيدهم. وافق ذات اليوم للعام 2013؛ رحيل قامة أخرى من قامات البلاد، كانت عنواناً للشباب وميقاتاً للحلم وإيفاء للوعد، فنان حمل الشباب وطموحاته بينه، خاطبهم بلغتهم، جلس معهم حول مجالس نقاشهم وحوارهم، أدرك كيف يفكرون ففكر معهم في محاولة منه لإثبات كينونتهم في مجتمعهم الذي ظل يلقي جلّ لائمته عليه. غنى للوطن وللسلام وللجمال وللأطفال: أي واحد لو فكر وقدّر عظمة الخالق بتظهر يبقى واجبنا العلينا نتحِد نرفع ايدينا نعمل المفروض علينا ربما كان خطابه لهذه الشريحة المهمة؛ إيمانا منه بأنهم قادرون على التغيير وقادرون على التأثير وعلى توظيف مقدراتهم وطاقاتهم الإيجابية وعلى الإنتاج، فأحاطوه بهالة من الحب والتقدير؛ ظهرت في أشيائهم وممارساتهم اليومية.. إذ قلما تمر بشارع لا تسمع فيه صوت محمود. شهد له الجميع؛ بمواقفه الإنسانية التي لم يعلمها الناس إلا بعد أن أسلم الروح بارئها، شهد له أحد الفنانين بأنه كان يجمع حوله (أولاد الشوارع) ويناديهم بأسمائهم ويجلسهم إليه في علاقة أشبه بالإخاء ومد اليد البيضاء، فأحاطوه أيضا بهالة الحب والانتماء، ولا غرابة؛ لأنه يحدّث عن نفسه في بساطة ويقول: أنا أصلي زول من قمت طيب اسألوا العرفوني فيكم ما جنيت على زول حبيتو قدمت فني وروحي ليكم تكرر ذات السيناريو؛ وبدأ المرض يجد سبيلاً إلى جسده الواهن منذ سنوات ليست بالطويلة، وبدأ صراع البقاء يتجدد ولسان حاله يقول: "لا مكان لهؤلاء المبدعين بينكم". وبدأ رحلة الاستشفاء في محاولة منه للانتصار والظفر بهالة حب الناس ليواصل عطاءه، لكن هيهات.. أتت ساعة الفراق وكأن التاريخ يعيد نفسه في ثوب ممزق ليغتال محمود، كما فعلها مع مصطفى. جاء التاريخ كغراب شؤم ليعلن للناس وفاة حبيبهم، وانتقاله إلى دار أخرى، منهم من لم يصدق الخبر، ومنهم من أدرك أن مثله لا يعيش طويلاً، فسلم بالقدر واستغفر الله. وما إن انطلقت الشرارة الأولى لإعلان هذا النبأ حتى بدأوا يتوافدون إلى حي المزاد - حيث منزله - وظلوا هنالك حتى وصول الجثمان لينتقل المشهد برمته إلى مطار الخرطوم الذي شهد الآلاف وهم يتوافدون نحوه، حيث ضاقت بهم باحات المطار على اتساعها وربما كان في خاطر كل منهم أن يطبع قبلة على جبينه ويقول له: "نَم قرير العين يا محمود". ليتواصل المشهد وهم يتبعون الجثمان من مطار الخرطوم حتى مقابر الصبابي راجلين. 17/1/1996 - 17/1/2013 تزامن واتفاق مشهد أو تكرار ملحمة تاريخية، ارتباط وثيق بين مكونات الإبداع أو صلة رحم بين أرواح، اتفق عليها حب الناس، ارتباط الأذهان بصراع البقاء وبتلاحم الأسطورة واصطدامها بالواقع، وإثبات جدلية الحب المفعم بالأمل، وبإثبات أن الأسطورة لم تعد خيالاً وإنما كانت واقعاً يمشي بيننا ذات يوم. إثبات الحب لأسطورتين كل منهما ينتمي لجيل مختلف إلا أنهما اتفقا في تشكيل الوجدان والذات وفي تقديم مفردات انتشلتنا من براثن الكلمة الضالة إلى سوامق الكلام، يومان خلدا في التاريخ حتى انتهاء التاريخ، إلا أنهما سيظلان يذكراننا بأنهما واريا أجساداً، حوتنا داخلها، الثرى. فكل الحب اليوم التالي