نعود الي ملف الكهرباء، باعتباره أحد مظاهر التعافي الوطني في مرحلة ما بعد الحرب، إذ تمضي الجهود الحكومية بخطى متسارعة لإعادة بناء البنية التحتية التي تعرضت لدمار غير مسبوق خلال الفترة الماضية. بالأمس أعلنت ولاية الخرطوم عن وصول 160 محولًا كهربائيًا ودخولها الخدمة، على أن تتسلم خلال ديسمبر 600 محول إضافي، ضمن خطة متكاملة لتحقيق اكتفاء الولاية من المحولات خلال ثلاثة أشهر بنسبة تتجاوز 90%، وهو تحول لافت بالنظر إلى عمق الدمار الذي أصاب القطاع وضعف الإيرادات والتكلفة العالية التي تتحملها الحكومة. وتأتي هذه الخطوات ضمن رؤية أشمل تقودها وزارة الطاقة منذ تولي الوزير المعتصم إبراهيم مهامه في أغسطس 2025، حيث سعى إلى إعادة بناء قطاع الطاقة في خارطة التعاون الدولي. ففي حديثه خلال "أسبوع الطاقة الروسي" بموسكو، أكد أن السودان رغم آثار الحرب ما يزال قادرًا على إنتاج النفط ويعمل على زيادته عبر شراكات جديدة، خصوصًا مع روسيا التي يأمل في الحصول منها على دعم تقني لتطوير الطاقة الكهرومائية. وقد بدأ موقفه واضحًا بشأن العقوبات الاقتصادية ، حين شدد على أن الإجراءات الأحادية لا ينبغي أن تحرم السودان من حقه في استيراد الطاقة. اللافت أن الوزارة عملت على توسعة خارطة التعاون الدولي لتشمل تركياوالولاياتالمتحدة في مجالات النفط والكهرباء، إضافة إلى شراكات مع شركة شنايدر الفرنسية لتوريد وصيانة المحولات، مع اهتمام خاص بتأهيل الكوادر البشرية وإدخال الطاقات المتجددة وتوفير المشتقات البترولية. وتشكل هذه المسارات مجتمعة محركًا مهمًا لإعادة إحياء قطاع الطاقة. على المستوى الداخلي، تعكس اجتماعات اللجنة العليا لتهيئة البيئة لعودة المواطنين إلى الخرطوم حجم التحرك الحكومي لمعالجة الأضرار التي أصابت قطاعي الكهرباء والمياه. فقد أشاد عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر بأداء لجان الكهرباء والمياه، مؤكدًا أهمية مضاعفة الجهود لضمان استقرار الخدمات. وأظهر تقرير هيئة مياه الخرطوم تقدمًا في معالجة التسربات وبناء خط جديد لحل أزمة مياه الأزهري بنسبة إنجاز بلغت 90%، إلى جانب تشغيل محطة الحلفايا بطاقة 30 ألف متر مكعب يوميًا. أما في قطاع الكهرباء، فقد اكتملت أعمال الصيانة والتشغيل في محطتي حلة كوكو وسوبا، إضافة إلى توصيل 294 كيلومترًا من الخطوط الناقلة، وربط جميع محطات المياه بالشبكة العامة. وتم خلال نوفمبر صيانة 820 محولًا ودخولها الخدمة، إلى جانب الترتيبات الجارية لاستلام محولات جديدة خلال الأيام المقبلة، ما يبشر المواطنين بعودة تدريجية لاستقرار التيار الكهربائي. كما شهد قطاع النقل الكهربائي تحسنًا تمثل في دخول محطة قري إلى الخدمة بعد اكتمال صيانة الخط الرابط بين الخرطوم ونهر النيل، في خطوة تعد من أهم عوامل ضمان الإمداد المستقر للكهرباء. أهمية عودة الكهرباء والخدمات، تشكل معيارًا سياسيًا لعودة مؤسسات الحكم إلى الخرطوم ، فإن استئناف الخدمات يمثل رسالة داخلية وخارجية بأن عاصمة البلاد تعود إلى الحياة، وأن الدولة قد استعادت أدواتها الحيوية لإدارتها ، وأن الحديث عن عودة الحكومة لم يعد مسألة سياسية ، بل معادلة مرتبطة بقدرة الدولة على إعادة تشغيلها وإعادة الثقة إلى مواطنيها، وتهيئة بيئة آمنة للاستقرار. غير أن هذه المؤشرات الإيجابية لا تحجب الحقيقة المؤلمة المتمثلة في حجم الخراب الذي لحق بالبنية التحتية. فقد دمرت محطات رئيسية مثل قري وبحري وجبل أولياء بنسبة بلغت 100% بفعل هجمات مليشيا الدعم السريع، وتعرضت الخرطوم لنهب أكثر من 15 ألف محول، وتدمير 150 ألف كيلومتر من الخطوط، وسرقة آلاف الأطنان من الكابلات، إلى جانب الاستيلاء على عشرات الآلاف من براميل زيوت المحولات، ما تسبب في فقدان أكثر من ألف ميغاواط تمثل 35% من الطاقة المنتجة. هذا الانهيار ترك أثرًا عميقًا على قطاع الصناعة، الذي تكبد خسائر فادحة جراء الحرب، قدّرتها وزيرة الصناعة محاسن علي يعقوب بتدمير 1877 مصنعًا في الخرطوم وحدها، بينها 553 مصنعًا دُمرت كليًا و1267 جزئيًا. وقد أدى ذلك إلى توقف شبه كامل للصناعة في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار، وإلى اضطرار البلاد لاستيراد السلع الأساسية، مما زاد الأعباء المالية على الدولة. ومع ذلك، أعلنت الوزيرة جاهزية وزارتها للمضي في خطة شاملة لإعادة الإعمار، بدأت بالفعل بتشغيل عدد من المصانع في الولايات الآمنة لإنتاج السلع الأكثر ارتباطًا بحياة المواطنين. وبحسب #وجه_الحقيقة فإن ما يجري اليوم في قطاع الكهرباء والطاقة، هو اختبارٌ لقدرة الدولة على استعادة أدواتها الأساسية لإعادة بناء العاصمة وتهيئة ظروف عودة المواطنين وتعزيز فرص الاستقرار. وفي قلب هذا المشهد، تتداخل الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية لتشكل معًا ملامح مرحلة جديدة تتجاوز حدود الصيانة إلى إعادة تعريف وظيفة الدولة نفسها، وتثبيت قدرتها على النهوض، واستعادة الخرطوم كعاصمة قومية قابلة للحياة ورسم خرائط المستقبل، وكمرآة لصلابة المجتمع السوداني وإصراره على الخروج من ظلام الحرب إلى نور الأمن وإعادة الإعمار. إبراهيم شقلاوي دمتم بخير وعافية. الأربعاء 26 نوفمبر 2025م [email protected] إنضم لقناة النيلين على واتساب Promotion Content أعشاب ونباتات رجيم وأنظمة غذائية لحوم وأسماك