الاستقبال الرسمي الذي لقيه الفريق سلفاكير رئيس جمهورية جنوب السودان، والسجاد الأحمر الذي مشى عليه الرجل صبيحة السبت الماضي، وهو يخطو أولى خطواته فوق السجاد الرئاسي الشمالي بصفته هذه المرة رئيساً لا نائب رئيس كما في الماضي، وكل تلك الحفاوة التي استقبلت بها الخرطوم نائب رئيسها سابقاً، وضيفها ورئيس جارتها الجنوبية الحالي، لم يغطيا تماماً على الأوضاع الحرجة التي تعيشها العلاقة بين البلدين، ووصول الأمور بينهما إلى حافة الهاوية خلال الفترة الماضية، على خلفية التوتر الشديد في منطقة أبيي، والحدود التي لم يكتمل الاتفاق عليها بعد، والنفط الذي لا تزال رسوم تصديره عبر الشمال موضع خلاف، فضلاً عن باقي القضايا العالقة، ومعها الدماء الكثيرة التي سالت في جنوب كردفان والنيل الأزرق، دماء تتهم الخرطومجوبا بالوقوف وراء إراقتها. البشير، استقبل نائبه السابق ببعض المقبلات الدبلوماسية، مثل فتح ميناء بورتسودان للصادرات الجنوبية، وتوسيع التبادل التجاري، وفتح فرص التعليم والتدريب أمام الجنوبيين، من جانبه بدا سلفا في تصريحاته حذراً، وجدد التزام قديم قطعه على نفسه قبيل الانفصال بعدم العودة للحرب، قبل أن يدعو إلى حلول لمعالجة المشاكل بين الجانبين، وإلى التعامل مع كل راغب في دفع الجانبين للحرب بوصفه عدواً، وتابع مخاطباً البشير: لن نخذلكم في الرؤية التي اخترتموها. سلفا، أتى إلى الخرطوم بصحبة عدد كبير من رجال دولته، مثل دينق ألور وزير رئاسة مجلس الوزراء، والفريق مجاك أكوت نائب وزير الدفاع، والفريق أول أويادي دينق وزير الأمن، والبروفيسور بيتر أدوك وزير التعليم العالي، وشكل الجانبان خمس لجان للتباحث حول القضايا الإنسانية، والتعليم، والحدود، والاقتصاد، والأمن، والاستثمار والصناعة والنفط. قدوم سلفا على رأس فريقه الحكومي إلى الخرطوم، يرى فيه البعض امتداداً لمواقف الرجل السابقة، على أيام السودان القديم، مواقف يعتبرها هؤلاء انفصالية خالصة، لا علاقة لها بما يجري في الشمال، إلا بما يؤثر على استقرار الجنوب واستقلاله، دفعت بالجنرال سلفا، إلى تبني سياسة مرنة إزاء الخرطوم، تقوم على التعاون، والبحث عن المصالح المشتركة، وإدارة الأزمات والمشكلات بنوع من الهدوء والتعقل، وفق إستراتيجية دفاعية، بعيداً عن التكتيكات الهجومية التي عرف بها آخرون في الحركة الشعبية، أمثال باقان أموم، ودينق ألور، وإدوارد لينو. في المقابل، لا يرى البعض في زيارة سلفا كير للخرطوم، عقب ثلاثة أشهر من رفعه علم استقلال بلاده، إلا خطوة دفعت إليها الحاجة، فدولة الجنوب الوليدة، كما هو معروف، تفتقر إلى أبسط مقومات الدول، فليس لديها معلمون، ولا أطباء، ولا مهندسون، ولا محامون، ولا عمال مهرة، فضلاً عن افتقار مؤسساتها الرسمية للخبرة والتدريب اللازم لتسيير دولاب العمل الحكومي، ما يجعلها تتطلع شمالاً نحو الكوادر الشمالية المدربة، ونحو الدولة الشمالية التي تمتلك خبرات ومهارات يمكن نقلها جنوباً، خاصة أن كثيرين، حذروا قيادة الحركة الشعبية من مغبة الإقدام على تأسيس دولة بلا كوادر، وانتظار دعم غربي لم يأت في مواعيد سابقة كثيرة، وانتظار دعم من دول كيوغندا وكينيا، تبدو في حد ذاتها في حاجة للدعم الفني واللوجستي، ناهيك عن أن تقدم دعماً مماثلاً إلى جوبا أو غيرها. تلك الدبلوماسية الشمالية الجنوبية، التي تحاول القفز فوق بقع الدماء والنقط التي تلطخ العلاقة بين الجانبين، يحذر البعض من صعوبة نجاحها، فالخرطوموجوبا، بقيتا على اتصال دائم وفي حوار مستمر منذ فترة طويلة، من قبل الانفصال حتى، وفشلتا معاً في تجاوز عقبة الخلافات الموضوعية بينهما، ما يعني أن الحوار وتبادل الزيارات لا يكفي وحده لحل تلك القضايا، خاصة بعد التعقيدات التي أفرزتها تطورات الأحداث خلال الفترة القصيرة الماضية، بعد تصاعد التوتر في أبيي، واندلاع المواجهات المسلحة في النيل الأزرق وجنوب كردفان. الحوار، هو أفضل طريقة للوصول إلى حلول ناجزة كما يقول د.الفاتح عز الدين رئيس لجنة العمل والمظالم العامة بالبرلمان، القيادي بالمؤتمر الوطني، فالحوارات المباشرة، وإن عبرت الأطراف فيها عن مراراتها ولم تخل من التراشق، تتم دون وسيط وتبرز فيها المواقف دون تحريف أو تبديل من جانب الوسطاء، ويتابع أن النوايا الطيبة التي أبرزها الجنوبيون تحتاج لأن يتبعها العمل، خاصة وأن الجنوب يحتاج إلى الموارد البشرية والخبرات والإمكانيات التي توجد في الشمال، ويتابع د. الفاتح: الرئيس عرض إعانة لدولة الجنوب فنياً ولوجستياً منذ مرحلة ما قبل الانفصال، لكن بعض الجهات قامت بعملية تشويش دفعت ببعض القوى داخل الحركة الشعبية لتعطيل هذه المبادرة، أما الآن فقد اتضح أن الغرب وغيره لن يقدموا الدعم المالي والفني واللوجستي للجنوب، لذلك يجب أن يعلو صوت العقل والمصالح المشتركة، كي يستفيد الشمال من موارد الجنوب، ويستفيد الجنوب من قدرات الشمال وإمكانياته وخبراته. يقدم البعض النفط على الدم هذه الأيام، باعتبار الأول أكثر أهمية من الثاني في حسابات الواقع والمنفعة الفردية والجماعية، بينما يصر آخرون على القول بأن الدم أغلى من النفط، وبغض النظر عن أيهما أكثر أهمية، فإن كلا الملفين يعتبران شائكين، وبينما توجد قضايا قابلة للحل نظرياً، مثل قضية تحديد رسوم عبور النفط الجنوبي أراضي الشمال، وقضية ترسيم الحدود، فإن قضايا أخرى تبدو عصية على الوساطات والمقاربات، مثل قضية النزاع السياسي والقبلي بين الخرطوموجوبا على منطقة أبيي، وقضية دعم دوائر في حكومة سلفاكير وحزبه للجماعات المسلحة في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، خاصة وأن نوايا سلفاكير الطيبة ليست جديدة، وليست زيارته للخرطوم بجديدة أيضاً - وإن كانت الأولى له بصفته رئيساً ? بل سبقتها زيارات وتصريحات براقة غير قليلة، لم تفض في نهاية المطاف إلى إبرام صفقة بشأن أبيي أو أية قضية أخرى من قضايا ما بعد الانفصال، ولم تفض بالطبع إلى إيقاف بنادق الحلو ومالك عقار عن إطلاق الرصاص..!