مقولة لويس الرابع عشر، ملك فرنسا إبان ثورتها التأريخية (أنا الدولة والدولة أنا) لم تكن تعني سوى تماهي الحاكم في الدولة، رغم أن البين بينهما بيون، كون أن الدولة- بتبسيط شديد- هي سلطة المؤسسة العامة والقوانين العامة، على الأرض والموارد والشعب، وأما الحكومة فهي الفريق المنتدب لإدارة تلك الدولة، بوصفها شركة مساهمة عامة يمتلك كلّ مواطن سهماً فيها، على السوية، لا فرق بين رضيع وشيخ أو أنثى وذكر أو أسود وأبيض، بينما الحاكم تجسيد لشخصية الحكومة الاعتبارية. الملك لويس كان مستبداً، قهر حتى النبلاء، وحكم باسم السماء، وحدث ذلك في زمان وضعت الثورة الفرنسية حداً له إلى الأبد، على مستوى العالم، ولكن ليس معقولاً تحمل الفكرة ذاتها بين أظهرنا في يوم الناس هذا. لذلك نادينا أمس بضرورة فصل الدولة عن الحزب، ليتحولا إلى ظاهرتين مستقلتين، إحداهما رسمية يملكها الكلّ، وتجسد إرادة وسيادة الكلّ، والأخرى (الحزب) كيان مدني فئوي، ناشئ بقانون الدولة وترخيصها لممارسة الدعوة السياسية وفق توجّه معين. واليوم نقارن بين مقولة أنا الدولة، ومقولة أفرزها واقع حال هيئة علماء السودان ومفادها (أنا الدين)، حيث يكفرون (بالمراسلة)!. وما يفقهه أقل المسلمين علماً، أن تكفير المرء تعقد له محكمة خاصة، وتستجمع له البينات الكافية، ويجادل فيه المتهم بالردة أو الكفر حتى يعلم ظاهر كلامه وباطنه، ويستتاب إذ ظهر كفره، فإذا لم يستجب يمهل ثم يستتاب، فإن سدر في غيه أعلن القاضي خروج المرء من الملة وحكم عليه بالكفر البواح. أما أن تتجرأ الهيئة – ممثلة في رئيسها -على تكفير (عالم) من علماء الدين البارزين، بالاسم والتعيين، وهو عضو في مجلسها نفسه، دون أن تتثبت، ودون أن تسأله لتفهم منه مدعاة ما جرى وطبيعة ما جرى، (فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فهذا لعمري عجب عجاب، فها هي الهيئة الموقرة تعود لتتنصل عن حكمها، وتتراجع أمام أمة لا إله إلا الله في اليوم التالي، لتصغر بالتالي في عين الصغير قبل الكبير، وتضمحل مصداقيتها، بعد أن اكتشفوا أنها غير مسؤولة بالقدر الكافي الذي يحفظ ماء وجهها، وأنها تحكم على الناس غيابياً في أمر جلل كهذا، باستخفاف وبينات سماعية افتراضية، تحول الفتوى الشرعية، باسم الله عزّ وجلّ، إلى لعبة، بلا هيبة وبلا احترام. فهل هذا معقول؟ وهل يمكن فهمه خارج إطار كونه صادر عن شعور بامتلاك ناصية الحقّ والحقيقة، دون أن تهتز قناة أو تطرف عين، مخافة أن يُظلم مسلم باسم الله وشرعه، ومخافة أن يبوء المفتي بكفر برئ ثابت الجنان، راسخ المعتقد في دين الله الحنيف. إذن فنحن بصدد ظاهرة (أنا الدين والدين أنا) أنا المعيار، وأنا من أقرر مَن المؤمن ومَن الكافر، حتى دون أن أسمع منه أو أحصل على بينات كافية. والله، لولا أن الله ورسوله ارتضى وثيقة مماثلة- مع من اعتبروه متمرداً، حمل السلاح ضد الدولة- حقنا للدماء وسعياً لمنح الكافرين فرصة إضافية، عسى أن يهتدوا فينجوا، لقلت أنا معكم، ولكن النبي وقّع صلح الحديبية، وثيقة فصلت الدين عن الدولة، وضمنت الأمن والسلام، وفتحت الفتح المبين. الله أكبر، لا العلماء، الدين، والمؤتمر الوطني، الدولة، فلقد ضيقتم واسعاً. المشهد الآن