شركة الفولكسواجن شركة ألمانية تميزت في صناعة العربات، ويقال أن هتلر وجه مهندسي الشركة بصناعة عربة تعمل بالتبريد الهوائي، فانتجت البيبتل الخنفس لتلبية احتياجات النازية لذلك النوع من العربات. كثير من القراء لا يعرف أن هنالك مؤسسة كبرى باسم الفولكسواجن تعني بتمويل البحوث العلمية في أفريقيا وآسيا، حيث الحاجة ماسة للأبحاث في طب المناطق الحارة، بعد هزيمة النازيين الألمان وسيطرة الحلفاء على الأمر في ألمانيا لم يظهر للسطح ملاّك شركة فولكسواجن العملاقة، ورغم ادعاء البعض بملكيتها اتضح أن أصحاب الحق فيها إما الحزب الحاكم الذي اندثر بعد الهزيمة أو جهاز الأمن الذي كان يدير الحزب أو بعض الشخصيات النافذة في النظام المنهزم، الذين إما قتلوا في الحرب أو اختفوا عن الأنظار خوفاً من العقاب، فوضعت الحكومة الفيدرالية وحكومة ولاية ساكسونيا الدنيا أياديهم على شركة إنتاج العربات العملاقة الفولكسواجن، وتوزعت أنصبتها بين الحكومتين – وتم تخصيص 60% من أسهم الشركة وطرحت للجمهور واحتفظت الحكومتان ب 20% من الأسهم لكل، وبالمبلغ الذي تم جمعه من تخصيص هذه الأسهم انشأت المؤسسة الخيرية باسم مؤسسة فولكسواجن للأبحاث، وكانت قيمة الأسهم المباعة لا تتعدى المليون مارك ألماني - أقل من مليون دولار – وحولت الحكومة الفيدرالية وحكومة ولاية ساكوسونيا الدنيا أرباح أسهمها لمؤسسة الفولكسواجن لدعم الأبحاث، وبهذا تكون كل أرباح شركة العربات قد تحولت لدعم الأبحاث، وبالاستثمار الواعي والتعامل الأمين الذي عرفت به ألمانيا مع اموال المنظمات الخيرية تقف ممتلكات مؤسسة الفولكسواجن عملاقة وتقدر ب 2.3 بليون يرو، ومنذ إنشائها عام 1962 قدمت دعماً للأبحاث في ألمانيا وأفريقيا بما تزيد قيمته عن 3.6 بليون يورو ومائة مليون يورو كل عام. لماذا لا نجد في البلاد العربية والإسلامية نماذج مثل هذه. أريحية في الدفع لعمل الخير، صدق في التعامل مع أموال وإدارة مؤسسات الوقف بصورة استثمارية جادة؟ بعد قيام ثورة الإنقاذ بتوجهها الإسلامي أغلق العالم أبوابه أمام التعامل مع السودان، ولأن العالم اليوم يدار بمفتاح أمريكي واحد، كانت جميع أبوابه حتى الأممية منها قد أوصدت تماماً، يشمل ذلك جميع أوجه التعاون بين الغرب والسودان، وإن نجح السودان في فك الحصار الاقتصادي باستخراج البترول لم ينجح في نقل التكنولوجيا والعلم ونتائج الأبحاث من الغرب وهنالك فرق بين أن تسمع وتقرأ عن التطور العلمي وبين أن تعايشه كحياة مستفيداً من نتائجه – وقف تدريب السودانيين في أمريكا وأروبا ولولا الجهد الشخصي وهمة بعض الخريجين الذين سافروا يطلبون العلم وعادت منهم مجموعات – لا نفصل السودان تماماً عما يجري في العالم المتقدم، ولابد أن نقرر أن جزءاً معتبراً في هذه العزلة الثقافية العلمية هي من صنع أيدينا – فمحاربة اللغة الإنجليزية الأكثر استعمالاً عالمياً وإهمال اللغات الأوربية الأخرى أضعف التعامل مع الآخرين. في أوربا وأمريكا وعلى مدى أعوام لا نجد للباحث السوداني أثراً في الدوريات العلمية، وأعجب لزيادة أعداد المجلات الطبية في السودان التي تعتمد على البحوث الداخلية كأنه اعتراف بعدم المقدرة لمنازلة الآخرين في مجالات البحث الحقيقية وفي ميادين النشر المحكمة. عندما أراجع مشاريع البحث المقدمة من ناشئة الأفارقة لهيئة الصحة العالمية أو مؤسسة الفولكسواجن أو مؤسسة قيتس (Gates) الأمريكية أحس بحزن أن ليس من المتقدمين باحث سوداني واحد على مدى أكثر من عشرة أعوام، وحتى في برنامج للصحة العالمية لدعم الأبحاث في المناطق الحارة لم يقدم غير عدد ضئيل لا يتعدى الخمسة. أفريقيا من حولنا نهضت في الأبحاث مع تزايد أعداد العلماء من حملة الدرجات العليا من امريكا واوربا راجعت ما قدمته مؤسسة الفولكسواجن من دعم لأفريقيا ولم اجد إلا مشروعاً صغيراً لأحياء اللغة النوبية لا يتعدى تمويله حفنة من اليوروهات، هذا النوع من التعاون مع مؤسسات البحث الأوروبية يدفع بتدريب أعداد كبيرة من ناشئة العلماء في أوربا مستفيداً من الخبرات المتراكمة لهذه الدول، كما يتيح الفرصة لنيل الدرجات العليا الدكتوراة وما فوقها ضمن برنامج ثنائي بين البلاد الأوروبية والأفريقية، وفيه دعم معتبر لمقدرات الجامعات الأفريقية، إذ يتضمن شراء معدات تشخيصية وبحثية متقدمة – يتدرب عليها طلاب الدراسات العليا ممن لم يجدوا فرصة مباشرة من المؤسسات الأوروبية. لا يجد كثير من الباحثين في السودان المقدرة العلمية لكتابة مشاريع بحثية تُحظى بالقبول للدعم وسط منافسة حادة من الدول الأفريقية وضعف البنية التحتية والتدريب في الجامعات ومراكز البحث. البحث العلمي هو أساس تقدم الأمم، وفي مجال الطب لولا الأبحاث العلمية المتقدمة لوجدنا أنفسنا ضحية لأمراض كالتي هلكت أسلافنا. البحث العلمي يحتاج إلى متطلبات أهمها المقدرة الذهنية للباحثين للتفكير من غير قيود وإمعان الخيال والمقدرة على تحليل الظواهر الطبيعية، ولعل كثير من السياسيين يعتقد أن البحث في مجالات العلوم التطبيقية ترف لا تستطيعه الدول الفقيرة، وهذه السياسة في أفريقيا هي التي جعلتنا ننتظر أن يأتينا حل وعلاج الأمراض المتوطنة في بلادنا من أوروبا وأمريكا، البحث العلمي هو تميز وجوده وقفز فوق المستوى العام للأداء ولا يمكن أن يزدهر مثل هذا النوع من النشاط البشري إلا في ظروف قومية تقيّم الجودة والتميز – وفي بلاد الغرب نجد أن الباحثين يكافئون باكتشافاتهم بتحويل هذه الإبداعات الخلاقة الى منتجات تجارية تكفل لهم العائد المادي. ولنا في عالم مهندس سوداني بلغ من الثراء حداً أن يحسب ضمن المائة الأثرياء في العالم في مجالات الاتصالات، نتيجة لاكتشافه لدورة كهرباء طورت إمكانات التلفون السيار (الموبايل) وهو مازال طالباً يحضّر لدرجة الدكتوراة. وقديماً كان الباحثون في السودان يقيّمون في الجامعات ودافعهم أن يبلغ الباحث درجة الأستاذية (البروفسور) ولكن بعد أن حوّلت هذه الدرجة العلمية في السودان الى درجة خدمة مدنية كدرجة \"دي اس\" \"وكيو\" تمنح حتى للذين لم ينخرطوا في البحث العلمي أو التدريب في مجال الجامعات، ضاع الحافز الذي يدفع بصغار الباحثين لبلوغ هذه الدرجة التي ما زالت تخضع لمقاييس عالمية ولا تمنح إلاّ لمن أسهم إسهاماً واضحاً في مجالات البحث العلمي. بعد أن انتشر التعليم الجامعي وغطى مساحات كبيرة من الوطن، وأصبح بإمكان من يحرز خمسين بالمائة في الشهادة الثانوية دراسة الطب – نرجو أن نوجه طاقاتنا وجهدنا الى تجويد العملية التعليمية الجامعية، لخلق علماء باحثين في المجالات المختلفة، وليس عيباً في نظري أن نعيّن جامعات بعينها تعنى بالتميز لا يقبل فيها إلا المتميزون، وتُدعم هذه الجامعات (عامة كانت أو خاصة) وتُهيأ فرص التدريب لطلابها داخلياً وخارجياً ليقودوا النهضة العلمية في السودان – والذين يصيبون هذا التفكير بسهام حادة نذّكر بأننا قد أجزناه كسلوك عندما انشأنا المدارس الثانوية النموذجية التي لا يُقبل لها إلا بالتنافس الأكاديمي الحر، وبالأمس أنشأنا مدرسة وادي سيدنا للمتميزين – فلنقر جامعات التميز التي لا يدخلها إلا من مُنح تأشيرة دخول أكاديمية، ولا مجال للوساطة أو التدخل السياسي أو اعتبارات اجتماعيه أخرى – إنها فكرة للنقاش. التيار