*قضية كتابة دستور دائم للسودان فى هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ وظهور توترات حادة وإحتراب فى مناطق السودان الطرفية أصبحت قضية ملحة للبحث ، ولقد فشلنا عبر عقود من الزمان فى كتابة دستور دائم يتصدى لكافة تحديات البناء القومى والوحدة الوطنية حتى عندما كانت التحديات أقل فأصبحنا مطالبين اليوم بالتصدى لكتابة الدستور فى ظل ظروف ظاغطة تهدد بتشظى الوطن ومن ثم تصبح عملية صناعة الدستور هى فى آن واحد عملية تستهدف إعادة تأسيس الدولة من جديد بدرجة تقلل من المواجهات وتحقق مصالحة وطنية وتبنى الوحدة تحت نظام ديمقراطى عادل ومنصف يحقق إقتسام الثروة ويشرك الجميع فى صناعة القرار ويحقق التنمية المستدامة والمتوازية التى تفضى الى القضاء على نهج التهميش التنموى والخدمى والسياسى وإذا فشنا فى هذه المهمة فأن بلادنا ستظل تعيش فى دوامة الأزمات التى تحيط بها وتهدد بالقضاء على وحدتها وسيادتها . *تحتاج الدول لدساتير فى حالات عدة منها عدم وجود دستور شرعى دائم ، قرار او تسوية النزاعات الداخلية ، الحاجة الى الأصلاح السياسى ، الحاجة الى إصلاح الحكم على سبيل المثال: الصلاحيات الكثيرة الممنوحة للسلطة التنفيذية ، الحاجة الى إستيعاب الأقليات او المصالح الأقليمية ، عدم الرضا عن إدارة الموارد او توزيع العائدات ، التغيير فى الحكومة وتعتبر مسألة صناعة الدساتير مهمة لتحديد هوية وطابع الدولة ، تحديد مصادر التشريع ، إختيار نظام الحكم وكيفية إختيار الممثليين المنتخبين ، التعريف بالحكومة وتوزيع السلة والعائدات بين مختلف مستويات الحكومة وتحديد دور ومهام القيود المفروضة على الشرطة وقوات الأمن الأخرى واذا كانت العملية تتيح للشعب المشاركة المباشرة فيها وصياغة نص الدستور حينها سينعكس الدستور على إحتياجات الشعب وتطلعاتة وربما تنشأ من عملية وضع الدستور إطاراًلبناء للثقة والتفاوض والمصلحة بين القوى السياسية والطوائف الأخرى ذات المصلحة ويمكن ان تكون عملية صناعة الدستور بمثابة منتدى للمناقشة والتوصل الى توافق حول القيم الأساسية للدولة وربما تشكل عملية وضع الدستور إشارة لألتزام القيادة السياسية والحكومة بالمبادئ والعمليات وتساعد عملية صنع الدستور فى تحديد الأولويات الوطنية للتنمية وإنشاء آلية يمكن من خلالها تحقيق تلك الأولويات ان عملية وضع الدستور صعبة ومعقدة ومثيرة للخلاف فى بعض الأحيان حيث ان الأعتبار الدقيق لأهداف عملية صناعة الدستور هو بالغ الأهمية لزيادة إحتمالات النجاح كما ان العملية التى تبنى دون اتفاق مسبق على الأهداف هى أقل إحتمالاً فى التوصل الى نتيجة ناجحة ووجود دستور جديد وشرعى يهدف الى توسيع نطاق الأجندة وإصلاح نظام الحكم وحقوق الأنسان الأساسية وغير ذلك كما التوصل الى توافق فى الآراء بشأن القيم الجوهرية والمبادئ الأساسية للدولة ومعالجة القضايا الأقليمية او العرقية من خلال ترتيبات مؤسسية جديدة وحقوق وضمانات. * يجب ان تستشير لجنة الدستور الشعب بشأن اولوياته وطموحاته على ان تجرى هذه المشاورات فى بيئة آمنة يكون فيها الناس أحراراً فى التعبير عن آرائهم الحقيقية كما ينبغى ان تمتد لفترة زمنية كافية يسبقها ما يلزم من عمليات تثقيف مدنى يتم من خلاله تمليك الناس معلومات عن عمليه صنع الدستور نفسها والأمر يستلزم ان يلتزم المجلس الوطنى أقصى درجات الحدز فلا يعمل على تغيير المسودة على نحو يخل بالتوافقات التى تم التوصل اليها من خلال العملية الجامعة التى انخرطت فيها المفوضية القومية لمراجعة الدستور بمشاركة الجميع وحتى يمارس الناس خيارات واعية بشأن الدستور الجديد. *هنالك عدد من اساليب صناعة الدستور اولها أسلوب المنحة وقد سمى هذا الضرب من الدساتير بدستور المنحة لأنه يصدر بمبادرة من الحاكم اى بإرادة منفردة دون شراكة من الشعب او ممثليه فهو إذن هبه يتفضل بها الحاكم المطلق ومن أشهر الامثلة لدساتير المنحة الدستوران الملكيان الفرنسى الذى اصدرة نابليون عام1814م والمصرى الذى أقره الملك عام 1932م والغته ثورة يوليو1952م ومع تنامى المد الديمقراطى وتراجع الملكيات المطلقة اندثر هذا الطراز من الدساتير ، وهناك أسلوب التعاقد وثمرة هذا الدستور هونتاج الاتفاق بين الحاكم والشعب ممثلاً فى مجلس او جمعية وهو بطبيعة الحال اكثر ديمقراطية من سلفه دستور المنحة لكن نقطة ضعفه ان إرادة الشعب ليست حرة تماما على إطلاقها لكنها مقيدة ومن النماذج عليها الدستور العراقى عام 1925م والكويتى عام 1962م ، ثم أسلوب الجمعية التأسيسية حيث تقوم الاخيرة منتخبة خصيصاً لوضع الدستور بصياغته وإقراره وأشهر جمعية تأسيسية فى العالم هى المجلس الامريكى الذى ضم ممثليين للدويلات الامريكية المستقلة حديثا عن الحكم وقام بوضع الدستور الامريكى عام 1787م وأخيراً أسلوب الأستفتاء الشعبى وفى هذه الحالة يجاز الدستور بإستفتاء جماهيرى وهذه الطريقة هى إعمال للديمقراطية المباشرة التى يقرر من خلالها الشعب مباشرة دون وسيط بيد ان اسلوب الاستفتاء يتعلق بإقرار الدستور وليس بوضعه وبالتالى لابد من جهه فنية تعد المسودة قبل عرضها على الاستفتاء وقد يكون الاستفتاء مستقلاً او مكملاً لإيجازة من قبل جمعية تأسيسة كما حدث فى السودان عام 1998م عندما أجاز المجلس الوطنى المشروع ثم عرض فى إستفتاء عام . * إنتقلت الدولة السودانية بين أنظمة حكم مختلفة طويلة الأمد وحكومات ديمقراطية قصيرة الأمد وينعكس ذلك فى تجارب السودان الدستورية المتعددة كما يتبين فى التالى : دستور الحكم الثنائى1953م ، والدستور المؤقت لسنة 1956م ، الأمر الدستورى الأول دستور الحكم العسكرى 1958م-1964م ، ودستور السودان المؤقت 1964م القائم على تعديلات لدستور 1956م والاول تم تعديلة للعامين 1965م و1966م ثم الدستور الدائم 1973م الذى عدل للعام1979م ودستور السودان الانتقالى 1985م ودستور السودان1998م ثم أخيراً دستور السودان للعام2005م ، من خلال متابعة ورصد إجراءات صناعة الدساتير سابقة الذكر نجد ان الحكومات لجأت الى لجان مهنية قانونية اما الحكومات السياسية فقد لجأت الى التمثيل السياسى المحدود ويتضح ذلك فى الاستعراض التالى لكيفية وضع هذه الدساتير :دستور الحكم الذاتى لعام 1953م ويعتبر اول دستور سودانى وهو المصدر الأسمى لكل دساتير العهود الحزبية ويحلو للبعض تسميته بدستور إستانلى فى إشارة لقاضى المحكمة العليا آنذاك الانجليزى الذى ترأس اللجنة التى وضعت ذلك الدستور المستر إستانلى بيكر ، دستور 1956م المؤقت : كان من المفترض وفق دستور عام 1953م ان تقوم جمعية تأسيسية منتخبة بإعداد دستور جديد للبلاد يواكب مرحلة الاستقلال بيد ان ضيق الوقت وحرص القوى السياسية على إستكمال مظاهر السيادة للدولة الوليدة بأعجل ما تيسر تم التوافق على تبنى دستور الحكم الذاتى بعد إدخال حزمة من التعديلات الطفيفة بواسطة لجنة من القانونيين وبالفعل قام البرلمان بإجازة كامل الدستور فى جلسة 31-12-1955م ، دستور 1956م تعديل 1964م : عقب إنتصار ثورة اكتوبر الشعبية وسقوط نظام الفريق عبود تم الاتفاق بين ممثلى القوات المسلحة والجبهة القومية الموحدة التى تضم الاحزاب والنقابات على إصدار ميثاق عمل وطنى إشتمل على تدابير إنتقالية اهم ما فيها إعادة العمل بدستور 1956م ريثما تنتخب جمعية تأسيسية تضع الدستور الدائم ، لاحقاً عدل ذلك الدستور بواسطة الجمعية فى الفترة من 1956م الى 1968م اربعه تعديلات ، فى هذه الفتره كونت لجنة قومية للدستور من داخل البرلمان وقطعت شوطاً كبيراً فى اعداد مسودة دستور 1968م لكن قبل الفراغ من ذلك جاءت ثورة مايو1969م واجهضت المشروع ، دستور السودان الدائم لسنة 1973م : هذا هو الدستور الوحيد الذى وضعته جمعية تأسيسية سميت مجلس الشعب الاول وهو مجلس منتخب جزئيا وكان يضم ممثلين للنساء والشباب والفئات والمهن المختلفة ، إلتأم المجلس الذى ترأسة مدير جامعة الخرطوم الأسبق الدكتور النذير دفع الله فى 12-10-1972م وواصل العمل حتى فرغ من مهمته فى 11ابريل 1973م وبعد توقيع الرئيس نميرى عليه صدر الدستور فى 8-5-1983م ، دستور السودان الانتقالى 1985م : بعد إنهيار العهد المايوى فى 3ابريل 1985م بأنتفاضة شعبية دعمها الجيش آلت مقاليد السلطة السيادية والتشريعية الى المجلس العسكرى برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب وكلف المجلس لجنة من الخبراء القانونيين بإعداد مشروع الدستور الذى نوقش فى جلسة مشتركة مع مجلس الوزراء ومن ثم أصدر ونص الدستور كالعادة على قيام الجمعية التأسيسة منتخبة تتولى إصدار الدستور الدائم وفى 2 ابريل 1987م اجرت الجمعية تعديلا للدستور الانتقالى لكنها لم تتمكن من حتى تكوين لجنة الدستور التى فاجئها انقلاب الانقاذ فى 30 يونيو1989م ، دستور السودان لسنة 1998م : خلال السنوات العشر لعهد الانقاذ كانت البلاد تدار عبر مراسم دستورية يصدرها مجلس قيادة الثورة برئاسة المشير عمر حسن احمد البشير وفى يوليو1997م كونت لجنتان قومية برئاسة مولانا خلف الرشيد رئيس القضاء الاسبق وفنية برئاسة مولانا دفع الله الرضى نائب رئيس القضاء الاسبق ثم احيل المشروع فى فبراير 1998م الى المجلس الوطنى الذى أقره بعد تعديلات اثارت لغطا كبيرا ثم عرض المشروع على الشعب فى استفتاء هو الاول من نوعه وبعد ذلك وقع عليه الرئيس واصبح سارياً الى ان الغى بعد توقيع اتفاقيه السلام الشامل عام 2005م . *من جهة أخرى قال عدد من المهتمين بالشأن العام السودانى أن الدستور هو إطار قانونى يحكم ويؤطر لعلاقة كافة الفئات فى المجتمع وواحدة من القضايا التى تثير جدلاً وهو كيف يتم تعريف المجال العام بانه شأن رجالى والمجال الخاص بانه شأن نسائى لذا عندما تكتب الدساتير غالبا مايتم إستبعاد النساء بصورة مباشرة وهى واضحة من قضايا النوع الاجتماعى التى تستعمل فى البلاد ذات العقلية الذكورية وقضية المرأة ظلت لفترة طويلة من منظور القوانيين مهملة الى ان بداء الفكر النسوى يبحث فيها حيث انه رأى انه لابد من العمل فى كافة المجالات بما فيها المجال القانونى وتم نقده وظهرت إتجاهات راديكالية للنوع الاجتماعى وجاء مؤتمر المرأة بنيروبى واشار الى ان قضايا التنمية لن تنجح الا اذا كنا نتحدث عن اصول دستورية فأنه يجب ان نخرج الدستور من الورق ويكون مع حياة الناس اليومية اى يكون فى الحياة اليومية ، يجب ان يتضمن الدستور حقوق الناس وحمايتهم وبما ان الدستور يعمل بآليات لابد ان تنزل الى الواقع العملى فاذا تم النظر الى التجربة السودانية للدساتير نجد ان الوضع كان متقدما فى عام 1973م ويرى كثيرون ان ملامح الدستور تتسم بضابية نظراً للأوضاع التى تمر بها البلاد من جهة وتطلعات المواطنيين وآمالهم من جهة أخرى.