التراضي الوطني وللجنوب على الشمال درجة بما أنجز د.سعاد ابراهيم عيسي حكومة الجنوب، وهى مقبلة على حدث تاريخي هام جدا، يتمثل في تقرير المصير الممنوح لمواطنيها للاختيار بين الوحدة مع الشمال أو الانفصال عنه، والذي تتم ممارسته عبر استفتاء تحدد موعده، بل ولاحت ملامح نتائجه جلية منذ الآن، فطنت إلى أن الوصول إلى هدفها عبر ذلك الاستفتاء وضمان ذلك، يتوقف على عدة عوامل لابد من توفرها حتى لا تعترض خط سيره اى من العراقيل أو المطبات التي قد تنحرف به إلى حيث لا ترغب. وحكومة الجنوب مثلها مثل كل الحكومات الأخرى، بدول العالم الثالث، معرضة لمعارضة أحزاب المعارضة التي كثيرا ما تخلط بين ضرورة الوقوف مع الحكومة ومتى تقف ضدها. فهنالك الكثير من الأحزاب الجنوبية التي اختلفت مع الحركة الشعبية، خاصة بعد الانتخابات الأخيرة، التي حصدت الحركة الغالبية العظمى من نتائجها لصالح مرشحيها، في حين ترى تلك الأحزاب بان الحركة لم تدر تلك الانتخابات بالعدالة والنزاهة والشفافية اللازمة، بل عملت على حرمان مرشحي تلك الأحزاب من حقهم في المنافسة العادلة ومع سبق الإصرار وعمدا. ونتج عن ذلك بعض الانشقاقات بين صفوفها، وبلغ حد التمرد عليها من بعض قياداتها العسكرية التي خسرت هي الأخرى في تلك الانتخابات فحملت السلاح من أجل استرداد حقها. وبالطبع، فان لم تعمل الحركة على معالجة كل تلك المشاكل تماما، فان الوصول إلى هدفها عبر الاستفتاء القادم لن يكن مضمونا. فكان القرار الأول للحركة هو الدعوة إلى حوار جنوبي- جنوبي يشمل كل الأحزاب الجنوبية والقيادات الوطنية الأخرى، من أجل مصالحة وطنية حقه، يتم خلالها العمل على إزالة كل الأحقاد والمرارات السابقة. ثم أردفت بقرار العفو السياسي الذى شمل كل الذين حملوا السلاح في وجهها. وقد استجاب الجميع لتلك الدعوة وبموجب ذلك العفو، فاقبلوا للمشاركة في ذلك اللقاء، الذى أغلق بابا كان من الممكن ان يدخل عبره الكثير من المشاكل التي لا تحمد عقباها. حكومة الجنوب وبعد أن اجتمعت بكل الأحزاب والقيادات الجنوبية بما فيها التي تعمل بأحزاب الشمال، وبعد ان ناقشت قضايا الاستفتاء وما بعد الاستفتاء، وبعد ان تصافت النفوس واجتمعت الكلمة حول مصلحة الجنوب، خرجت بقرارات تدل على أنها استطاعت عبر ذلك الحوار من رسم خارطة طريق معبدة ستقود قطعا إلى مستقبل أفضل لوطنها ومواطنيها، ليس اقله ضمان الأمن والاستقرار السياسي الذى لن يتأتى فى غياب وحدة الصف. ومن بين قرارات ذلك التجمع الجنوبي، تكوين حكومة قومية بعد الاستفتاء برئاسة سلفاكير، تعد لانتخابات قادمة قطعا ستتسم بالحرية والشفافية اللازمة التي تتفادى كل أخطاء ما سبقها من انتخابات، إضافة إلى الاتجاه لوضع دستور دائم للجنوب بعد ان استنفذ الدستور الحالي كل إغراضه. وغير ذلك من القرارات التي تهئ لانطلاقة الدولة الجديدة، التي تم تجهيز علمها، ونشيدها الوطني قبل أن يشرع في إجراء الاستفتاء على الخيارين وأيهما سيختار المواطن الجنوبي ان كان وحدة أو انفصالا.. نعود لحكومة الشمال وجهدها في اتجاه وحدة صف مواطنيها.المطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى.هذه الحكومة اسمها حكومة الوحدة الوطنية، بينما فعلا هي حكومة حزب واحد هو المؤتمر الوطني مع ( شوية) إضافات من أحزاب متوالية معه، ما كان لها ان تنجح في الانتخابات التي أتت بها، ان لم تتسلق على أكتافه، ومع قليل لا يذكر من أحزاب المعارضة. وقبل الانتخابات الأخيرة التي انفرد بغالبية مقاعدها حزب المؤتمر الوطني بالشمال كما فعلت الحركة الشعبية بالجنوب، كانت حكومة الوحدة الوطنية حينها، هي أيضا حكومة المؤتمر الوطني أولا بمشاركة الحركة الشعبية ثانيا، حيث اختصتهما اتفاقية السلام بنسبة 80% من مقاعد السلطة بشقيها التنفيذي والتشريعي، بينما ترك الفتات لأحزاب المعارضة من الشمال والجنوب. هذا الوضع الشاذ والمختل كان لابد من أن تبحث الحكومة عن وسيلة لمقابلة تبعاته، فاتجهت إلى المسكنات دون العلاج، فأكثرت الحديث عن الوحدة الوطنية، وجمع الصف الوطني، والوفاق الوطني وكل ما يدعو إلى الجميع بين المواطنين، ولكن كل ذلك قولا دون ان يجد طريقه إلى التطبيق فعلا. أظنكم تذكرون عدد اللجان التي شكلتها ذات الحكومة، من اجل ذلك الجمع، ومنها من أخذ الأمر مأخذ الجد، فشرع في البحث عن كل الطرق التي تؤدى إلى تحقيق ذلك الهدف، وقبل ان تصل تلك المحاولات غاياتها، تصرف الحكومة النظر عن الموضوع برمته وتسدل الستار عليه إلى حين ضرورة أخرى لإحيائه. وما نعجب له استجابة الأحزاب المعارضة وغيرها من المواطنين الذين ما ان تتم دعوتهم لجمع الصف الوطني عندما تكون الحاجة لتلك التمثيلية ماسة، فيلبون الدعوة بعشم ان تكون أفضل من سابقاتها، فيخيب ظنهم في كل مرة، ولا تتوقف استجاباتهم في المرات القادمة. ثم جاءت مرحلة أخرى، رأت فيها بعض الأحزاب أن تأخذ على عاتقها المبادرة بالدعوة إلى جمع الصف الوطني ومن بعد عرضها على المؤتمر الوطني الذى لا يرفضها أبدا، بل يؤيدها ويثنى عليها، ومن بعد يودعها مع غيرها في سلة النسيان. وجاءت مرحلة عقد الاتفاقات بين المؤتمر الوطني وبعض من الأحزاب كخطوة لجمع الصف الوطني كان من أشهرها وأهمها اتفاق التراضي الوطني الذى ابرم بين حزب الأمة القومي والمؤتمر الوطني، والذي امهره المشير عمر حسن احمد البشير رئيس المؤتمر الوطني والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي. والقارئ لذلك الاتفاق لا يشك في ان جميع ومختلف قضايا ومشاكل الوطن والمواطنين قد وجدت طريقها للعلاج الناجع عبره. لذا فقد وصفه السيد الصادق المهدي بأنه مثل سفينة نوح، فمن يتخلف عن اعتلائها من المواطنين فإنه لا محالة غارق،غير ان الأيام أبانت ان الذين اعتصموا بالجبل ممن نأوا بأنفسهم عن اعتلاء تلك السفينة، هم الذين نجوا من الغرق، بعد أن (خرم) المؤتمر الوطني السفينة وهى في بداية إبحارها، فغرقت بفكرتها للأبد، رغم انه لو قدر لذلك الاتفاق من السير حتى نهاية الطريق، لمكن من معالجة كل القضايا العالقة وفى مختلف مجالاتها، كما وفتح الطريق لمصالحة وطنية عادلة وشاملة ومقبولة من الجميع، قطعا ستقود إلى وضع غير الذى نعيشه اليوم. أما لماذا رفضها المؤتمر الوطني بعد ان وقع عليها؟ فنظرة إلى بند واحد من بنود الاتفاق توضح اختلافه مع نظرية التمكين وإقصاء الآخرين التي يعتمدها المؤتمر الوطني من أجل استدامة الحكم،. فالبند الرابع في ذلك الاتفاق يتحدث عن الانتخابات حيث يقول. 1- يؤكد الطرفان أن الانتخابات في نظام قانوني وممارسة سياسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالديمقراطية، وحزمة من مبادئها الأساسية كالتداول السلمي للسلطة، وحرية الاختيار وتوسيع قاعدة المشاركة، وحق التنافس الشريف، وتكافؤ الفرص والمساواة والتوازن النوعي،. وأيضا مرتبطة بحزمة من الحقوق الأساسية مثل حق التنظيم والتجمع، حرية التفكير والتعبير، حق التقدم نحو المواقع القيادية في الدولة. 2- يؤكد الطرفان على ضرورة الالتزام بما جاء بالدستور الانتقالي لعام 2005م بشأن الانتخابات، وما يتصل بها من تشكيل مفوضية خاصة، وان تكون حرة ونزيهة ومراقبة. فتخيلوا لو التزم المؤتمر الوطني بما اتفق عليه في هذا الجانب فقط ، جانب الانتخابات، بدلا من كل الممارسات التي اتبعها عكس ما اقر واتفق عليه، فادت في النهاية إلى مقاطعتها من جانب كل الأحزاب، العريقة منها بالطبع، وبعد أن ضيق عليها الخناق وحرمها من الحركة والتنفس.، فكيف كان حالنا اليوم؟ لكن المؤتمر الوطني رأى أن يستمر في سياسة الانفراد بالسلطة والثروة التي لا تتسق مع ما جاء بالاتفاق، لا من قريب ولا من بعيد، فكان لابد من التنصل عنه. ولعل معارضتنا لذلك الاتفاق حينها، مردها ثقتنا في ان ما جاء به من معالجات لمختلف قضايا الوطن والمواطنين يبعد كل البعد عن السياسات التي يعتمدها المؤتمر الوطني في حكمه بصرف النظر عن تأثيرها السالب على المواطن ما دام ذلك التأثير موجبا بالنسبة له. المدهش أن ما جاء بذلك الاتفاق قد تمكنت الحركة الشعبية من تطبيق بعضه، بل وأكثره أهمية وهو موضوع الوفاق الوطني، حيث توصلت إلى مصالحة وطنية شاملة، وتراضى بين جميع أحزاب الجنوب وكياناته الأخرى، مكن من إزالة مرارات الماضي وعلقمه من النفوس، ومن ثم تنقيتها من كل الضغائن والأحقاد عبر المصارحة والمصالحة، فأصبحت بذلك جاهزة للسير إلى الإمام مجتمعة، ومتجهة نحو تنمية وتطوير وطنها، وإسعاد مواطنيها. وهو جهد تحتاجه حكومة الشمال وبصورة اكبر وأسرع، وهى مواجهة بأصعب امتحان سياسي واقتصادي بل واجتماعي أيضا، يفرضه عليها الاستفتاء القادم ونتائجه أيا كانت وحدة أو انفصالاً. وتلك مواجهة تحتاج لجهد جميع المواطنين من اجل اجتيازها بأقل الخسائر وأيسرها. فمقدمة آثار الانفصال قبل حدوثه، عكستها الأسعار التي جن جنونها حد المضاعفة وأكثر، وبصورة لم يشهدها المواطن من قبل، ولم نسمع بمثلها في أي من بلاد العالم الأخرى، متقدمة أو متخلفة. والحكومة (عليها ليل) وهى مشغولة في الجري خلف سراب الوحدة مع الجنوب، قبل أن تنشدها وتضمنها مع الشمال. فالشعب الذى صبر على الجوع والعطش، والفقر والمرض، وغير ذلك من منقصات الحياة التي أدخلته فيها حكومة المؤتمر الوطني، وكما لم يصبر على أي نظام حكم سابق لها، وبشهادة السيد رئيس الجمهورية نفسه، لا أظنه سيصبر إلى ما لا نهاية، خاصة عندما يشعر بالتجاهل وعدم الاهتمام من جانب الحكومة بما يعانى، دعك من السعي الجاد لمعالجته. وحتى الآن لم نشاهد أو نحس بأن الحكومة تعطى ادنى اهتمام لذلك الأمر، أمر معالجة مشاكل المواطنين، ومن بعد محاولة توحيد صفوفهم من أجل إنقاذ الوطن الذى أصبح على شفا حفرة من نار. والحكومة وهى مواجهة باحتمالات الانفصال لجنوب السودان، والذي يعتبر أم المشاكل، خاصة ان لم يتم التحوط لحدوثه منذ الآن حتى لا يصبح (ميتة وخراب ديار) متى صاحبه عنف يكثر التبشير به حاليا. فهي في حاجة لجمع الصف حقا وحقيقة، الأمر الذى يتطلب التخلي عن عقليتها القديمة، حيث تدعو الأحزاب المعارضة، لا من أجل المعالجة الشاملة للمشاكل العالقة بينها وبينهم، ومن بعد السير معا في الاتجاه الذى يخدم قضايا الوطن، ولكن لاستخدامهم كدروع مؤقتة تحتمي بها ريثما تنقشع سحابة المشكلة التي دعتهم بسببها، فتتخلى عنهم وتعود سيرتها الأولى، أما الآن، فعلى الحكومة أن تتبنى ذات الفكرة التي تبنتها حكومة الجنوب، من حيث دعوة كل الأحزاب المعارضة والمهادنة، وغيرها من الشخصيات الوطنية، لاجتماع مصارحة أولا ومصالحة ثانيا، وهو احد بنود اتفاق التراضي الوطني الذى وقعته ذات الحكومة مع حزب الأمة القومي ومن بعد أهملته. فان كانت حكومة الجنوب قد أفلحت في معالجة مشاكلها السياسية مع كل أحزابها ومعارضيها، وعبر مؤتمر واحد تمكن فيه الجميع من إفراغ ما بأنفسهم من غبن وضغائن،فأصبحوا بموجب ذلك إخوانا، فليس هنالك ما يمنع حكومة الشمال من الوصول إلى ذات النتائج ان مهدت لها بالعفو عن كل السجناء السياسيين، وسجناء الرأي من الصحفيين، والذي بموجب اعتقالاتهم المتكررة، أصبح السودان من بين الدول الأكثر حجرا على حرية التعبير. وحبذا لو عملت الحكومة على تكوين آلية الحقيقة والمصالحة، التي جاءت باتفاق التراضي الوطني أيضا، حتى تعمل على تصافى النفوس وإفراغ الصدور من غبائنها المتراكمة، ليقدم الجميع على المشاركة في حمل أثقال مستقبل السودان التي تنوء بحملها الجبال، بدلا من الوقوف على الأرصفة يتفرجون على الحكومة، وهى عاجزة عن حملها. الصحافة