شعب السودان مسيح هذا الزمان!! تيسير حسن إدريس [email protected] نظرة تحليلية لموقف تيار الإسلام السياسي من الربيع العربي من يرصد بنظرة تحليلية ويتابع ربيع الثورات العربية المجيدة التي انطلقت من تونس الخضراء مضمخة بعبير وشذا روح الشهيد البو عزيزي وانداحت من بعد ذلك وعمت الأرجاء لتهز وتقتلع صروح الدكتاتوريات العربية العتيدة في عدة دول ولا يزال تنورها الفتي يقذف بحمم التغيير الثوري في كل اتجاه ويقض مضاجع الطواغيت والطغاة في كل العالم ويزرع الأمل في ربوع المشرق العربي الذي اصطلى بنظم حكم ظالمة وبغيضة وفي إنسانه الذي تحرر من قيد الخنوع وسجن الخوف وانطلق ماردًا يطلب العلا والعيش الكريم في رحاب نظم مدنية تحترم حقوقه وتقدس وجوده كمستخلف على الأرض لعمارها وليس لدمارها ، لاشك أن المراقب للمشهد العام يلمس ويرى التغيير الدراماتيكي الذي حدث في خطاب تيار الإسلام السياسي وطلائعه التي شاركت مع بقية التيارات الوطنية في هذه الثورات و صناعة الواقع الجديد. والجديد في أمر تيار الإسلام السياسي والذي شارك منسوبوه بنشاط في هذه الثورات التي انتصرت في تونس ومصر وليبيا واقتربت من تحقيق أهدافها في اليمن وسوريا أن معظم روافده قد تخلت عن نزق وخطل الخطاب السلفي الكلاسيكي وأجمعت على خيار الدولة المدنية التي تستمد قوانينها وتشريعها من الإسلام وفي ذلك نقلة فكرية نوعية عظيمة إذا ما صدقت النوايا وكان هذا الموقف استراتيجيا وليس تكتيكا اقتضته ضرورة التلاحم والتعاضد الثوري لاجتياز المنعطف الأصعب والوصول للهدف الرئيس ومن بعد ذاك لكل حادثة حديث ولكل مقام مقال. المهم في الأمر أن المواقف المعلنة لحزب النهضة الإسلامي في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر حتى الآن تتميز بالعقلانية ولا تدعو للقلق ويبدو أن تطورا حقيقيا ونوعيا قد حدث في فكر ونهج هذه الجماعات وقادها للابتعاد عن طرح خيار الدولة الدينية الكلاسيكية المنغلقة وتبني خيار الدولة المدنية المنفتحة ديمقراطيا خاصة بعد أن عايشت هذه الجماعات عن قرب في الفترة الماضية إخفاقات وفشل تجارب الحكم (الثيوقراطية) في كل من أفغانستان والسودان وحتى في إيران بينما يشكل مثال نظام الحكم التركي الديمقراطي الإسلامي المنفتح بكل عنفوانه ونجاحاته نقلة حقيقية في نهج وطريقة ممارسة الإسلام السياسي المستنير للحكم تثير الاهتمام والاحترام. ولكن يظل الشك والخوف من أن يكون هذا الموقف المتقدم لتيار الإسلام السياسي في الدول التي عمها (الربيع) مجرد َتكتيكٍ حتمته ظروف المرحلة وسيتم الالتفاف عليه والتخلي عنه متى ما حانت الفرصة؛ فتاريخ هذا التيار حافل بالكثير من هذه التراجعات والتنكر للتعهدات المبرمة مع التيارات الوطنية الأخرى والتجربة الإيرانية خير شاهد على ذلك خاصة إذا ما دانت له السلطة في ظل الظروف المواتية الحالية التي يتمتع فيها التيار الإسلامي بكافة مقومات الفوز (ماديا وتنظيميا) مما يجعل أمر اكتساحه لأي انتخابات ديمقراطية قادمة مرجحا في تلك البلدان. ومن ثم يبقى عامل آخر يدعو للقلق وهو انصياع التيار الإسلامي لابتزاز الجماعات السلفية المتشددة داخله والتي سيدفعها الطمع لمطالبته بتراجع عن مواقفه وتعهداته في محاولة منها للانفراد بالسلطة وخلق دكتاتوريات جديدة على أسس دينية وفي هذه الحالة سيعيد التيار الإسلامي نفس تجارب الحكم الثيوقراطية الفاشلة التي سبقته ويحترق نهائيا ويخرج من حلبة اللعبة السياسية خاصة في ظل روح العصر الذي نحن فيه والمستجدات في السياسة الدولية التي دفعت بقوانين حقوق الإنسان والعدل والحريات قدما للواجهة وما عادت تسمح بتكرار تجربة الدولة الطالبانية التي اندحرت وتعيش منذ أمد حالة من الخصام الحاد مع التجربة الإيرانية والسودانية وفي جفاء تام مع شكل وجوهر النظم الدينية. وإذا ما أردنا أن نأخذ الحالة السودانية ممثلة في نظام الإنقاذ كمثال، ومدى تأثير تجربته في الحكم على برنامج تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وتغير قناعات بعض قادته ومفكريه -ومنهم سودانيون- التي أدت لمراجعات فكرية في غاية الأهمية؛ خاصة من أولئك الذي آثروا الابتعاد عن نظام الإنقاذ الحاكم، بعد أن تبين لهم ضعف وسذاجة المشروع الذي طرح كمرشد للسلطة فيما عرف ب(المشروع الحضاري) الذي أدخل السودان في نفق مظلم، وقاد للفشل الذرئع والخيبات المتلاحقة في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بل تعدى ذلك لضياع وحدة الوطن وتهديد سيادته فذهب ثلث الوطن وأقام دولة مستقلة في الجنوب، في حين اشتعلت أطراف السودان الأخرى بصراعات دامية أحرقت الزرع والضرع، ومازالت تستنزف مقدراته المادية والبشرية، وتنذر بعواقب وخيمة أقلها تحلل وانهيار الدولة بأكملها؛ بسبب التدخلات الخارجية التي حولت السودان لمرتع للقوات الدولية، بينما تعاني الأغلبية الساحقة من الشعب شظف العيش، والانقسام والصراعات القبلية والجهوية، التي عطلت انصهار المكون السكاني وصياغة الهوية الوطنية. وقاد هذا الوضع المأزوم والمتفجر لنسف المشاريع التنموية القائمة، وأدَّى لانهيار اقتصادي غير مسبوق، ساعد في ذلك سياسات النظام الحاكم الاعتباطية وغير المدروسة التي دمرت المشاريع الزراعية التي كانت تدعم خزانة الدولة مثل مشروع (الجزيرة) العماد التاريخي للاقتصاد السوداني ، مما حدا بالنظام لتبني سياسات اقتصادية قاسية قائمة على تحصيل الضرائب الباهظة والجبايات غير المبررة، ورفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الضرورية والعلاج والتعليم؛ ليعم الفقر والعوز المجتمع ويقود لانهيارٍ فظيعٍ في منظومة القيم الأخلاقية التي كانت تنظمه، وتحافظ علي الحد الأدنى من روابط التكافل والتراحم فيه، وعندئذٍ انتشرت الظواهر الاجتماعية السالبة من سرقة واختلاس ورشاوي وممارسات جنسية غير شرعية؛ امتلأت نتيجة لها دور الرعاية الاجتماعية بالأطفال مجهولي النسب مما خلق مأساة اجتماعية لم يعهدها الشعب السوداني من قبل. إن هذه التجربة البشعة في الحكم التي راح ضحيتها شعب السودان ودفع فاتورتها الباهظة المواطن السوداني المغلوب على أمره كان لها القدح المعلَّى في وصول تيار الإسلام السياسي في الدول التي اندلعت وانتصرت فيها الثورات للقناعة بضرورة تبني خيار الدولة المدنية الديمقراطية ونفض اليد عن مقولة (الإسلام هو الحل) التي سادت فكر الإسلام السياسي منذ ظهوره ولعل شعب السودان (مسيح هذا الزمان) قد أراد بصبره على هذا الابتلاء والكرب أن يكشف أمام العالم ودول المنطقة عيوب وعورات هذا المشروع الإقصائي المدمر حتى لا يعود أمام مفكريه ومناصريه أي حجة يدافعون بها أو خطة للالتفاف وخداع شعوب المنطقة من جديد المهيأة أصلا بحكم تدينها لمثل هذا النوع من الخداع والغش باسم العقيدة والدين. مما تقدَّم نجد أن شعب السودان الذي اختاره المولى عز وجل لخوض غمار هذه التجربة المؤلمة تحت رايات حكم تيار الإسلام السياسي المتمثل في نظام (الإنقاذ) الذي صلب الشعب على سراب وعود مشروعه الإقصائي لتكون جراحه وآلامه طهورا وخلاصا لشعوب المنطقة الأخرى من رجس الدكتاتوريات الظالمة دينية كانت أم علمانية فحق عليه لقب (مسيح هذا الزمان!!) كما يحق له وهو صاحب (الوجعة) الذي تحولت بلاده لمعملَ تجاربٍ لمشاريع المتأسلمة الفاشلة أن يسأل، عن توقيت رفع المسيح السوداني المصلوب، وبعثه من جديد ليحرر الوطن من نير المسيخ الدجال ويملأه عدلاً بعدما ملأه ظلمًا وجورًا ؟!! تيسير حسن إدريس 23/08/2011م