عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    بونو ينافس دوناروما وكورتوا على جائزة أفضل حارس في العالم    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    المريخ يختار ملعب بنينا لمبارياته الافريقية    تجمع قدامي لاعبي المريخ يصدر بيانا مهما    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أولئك السودانيون المتآلفون مع قدرهم البائس
نشر في الراكوبة يوم 07 - 06 - 2013

ارتبط اسم الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن ب «الرقابة والمصادرة والمنع»، أكثر مما ارتبط بأعماله الأدبية، ففي كل عمل جديد لهذا الكاتب عليه أن يخوض فصولاً مريرة مع الرقابة في بلاده السودان الذي يضيق فيه هامش الحرية كثيراً، شأنه شأن بلاد عربية كثيرة ينشط فيها الأوصياء والرقباء و «حرّاس القيم» على نحو يجعل من أي تغريد خارج السرب صوتاً متمرداً ومشاغباً ينبغي إسكاته. لكن بركة ساكن، الذي لُقّب ب «الزبون الدائم للرقيب»، لم يأبه يوماً لقائمة الأوامر والنواهي الكثيرة، بل ظل صوتاً مشاكساً يجهر بالمسكوت عنه، ويعلن انحيازه إلى مشروعه الإنساني الذي يروي «أحلام طبقته وآلامها وطموحاتها المذبوحة»، وهذه الطبقة تشمل، كما يقول، «المنسيين، المرضى، الشحاذين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك، المشردين، العمال الموسميين، الكتّاب الفقراء، الطلاب المشاكسين... وقس على ذلك من الخيرين والخيرات من أبناء وطني»، ويخلص إلى القول بأنه كاتب «حسن النية وأخلاقي، بل وداعية للسلم والحرية، لكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك...».
ومثلما أن رواياته ومجموعاته القصصية السابقة، مثل «على هامش الأرصفة»، «امرأة من كمبوكديس»، «ما تبقي كل ليله من الليل»، «مسيح دارفور»، «الجنقو، مسامير الأرض»...وسواها، أثارت موجة من الغضب والاستياء لدى الرقابة، فإن روايته الجديدة «مخيلة الخندريس»، الصادرة، أخيراً، في القاهرة (دار أوراق، 2012)، مرشحة لأن تثير غضباً مماثلاً لدى الرقابة، بل، ربما، كانت هذه الأخيرة هي من أكثر رواياته استفزازاً ل «الذهنية الرسمية والمحافظة»، نظراً لجرأة الطرح، وحساسية الموضوع المعالج.
يستهل الكاتب روايته بتوضيح ينطوي على سخرية سوداء، فهو يقول إن أحداث روايته جرت في دولة «شديدة الشبه بجمهورية السودان، وقد تتطابق أسماء المدن، القرى، الأشخاص، الوزارات والصحف، وقد تتطابق الأحداث، والسياسات، والأزمنة والأزمات أيضاً، لكن تظل أحداث الرواية تجري في دولة خيالية لا وجود لها في الواقع، لأن ما يحدث في هذه الرواية يستحيل حدوثه في السودان»، وبالتالي، وكما يقر بركة، فهي من «شطحات الخيال المريض لكاتبها». بعد هذا الإعلان الصريح، سيتوقع القارئ أن بركة ساكن سيتحايل على واقع بلاده، وسيلجأ إلى الرموز والاستعارات، وسيلغز كلامه بتعابير ومفردات تبعد الشبهة عنه. لكن شيئاً من ذلك لا يحدث، بل قل أن عكس ذلك، تماماً، هو ما ستكشف عنه الصفحات التالية.
يمضي بركة في سرده من دون أي تلميح أو مواربة، إذ يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية بدءاً من الخرطوم وأم درمان والنيل وصولاً إلى أصغر تفصيل في الرواية.
وهذا التناقض بين استهلال يحاول إلغاء التشابه بين أحداث وأمكنة الرواية وبين واقع السودان، فيما السرد اللاحق يغرق في صميم الواقع السوداني، يحمل تهكماً جارحاً يكشف عن المزاج العبثي الساخر لبركة ساكن الذي يقتحم في هذا العمل قاع المجتمع السوداني كي يسلط الضوء على قضية هي في غاية التشابك والتعقيد، ألا وهي قضية المشردين وأطفال الشوارع، وقصص الزوايا المعتمة والأزقة الخلفية القذرة التي تنشأ، عادة، على هوامش المدن الكبيرة التي لا تعرف معنى للرأفة.
شريحة منسية
هذه القضية المؤلمة في أبعادها وتداعياتها، تصلح لتقارير تلفزيونية مصورة، ولأفلام وثائقية قادرة على إظهار معاناة هذه الشريحة المنسية التي تتزايد في غفلة من الزمن، وبعيداً من رفاهية المسؤولين الرسميين الذين يتأففون من تلك العشوائيات الطارئة. ولكن يبدو أن إنجاز ذلك صعب المنال لا سيما في بلد تتقلص فيه الحريات الصحافية، ويحاسب فيه الصحافي على فضوله و «حشريته»، كما حصل لإحدى شخصيات هذه الرواية، وبالتالي فإن مراقبة هذه الشريحة بصمت في شوارع الخرطوم، ومن ثم نقل تلك المشاهدات والانطباعات إلى صفحات رواية تبدو خياراً مناسباً. وهذا ما يفعله بركة ساكن الذي يرافق، عبر عيون ساردة الرواية وبطلتها سلوى عبد الله، أطفال الشوارع الذين حرموا من الحنان، بل من أبسط مستلزمات وضرورات العيش الإنساني.
إنهم مجرد أرقام فائضة؛ متناثرة في فوضى الشوارع والأزقة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ولا يجدون ما يسدون به الرمق سوى فتات الأثرياء المرمية في حاويات الزبالة، وهم، علاوة على ذلك، عرضة لكل أنواع المخاطر والأمراض والانحراف والضياع، إذ تتبدد أعمارهم الغضة وسط الجوع وضنك العيش والذل، ولم يتعرفوا، يوماً، على أي معنى للطفولة التي ترمز إلى البراءة والنقاء والشغب واللهو.
لا عزاء لهذه الشريحة التي تبدو وكأنها تآلفت مع بؤسها، واستمرأت قدرها الأسود، وراحت تشكل معضلة اجتماعية لا تني تتفاقم وسط غياب أية خطط رسمية لإنقاذها من براثن الموت والمرض. ذلك هو الشاغل الرئيس لهذا العمل الذي ينهض على حادثة شهدتها الخرطوم، قبل سنوات، حين توفي نحو 76 طفلاً مشرداً، وفقاً للصحافة الرسمية «التي ينبغي أن نضرب رقمها في ثلاثة حتى نعثر على الرقم الصحيح»، كما تقول الرواية.
وهذه المأساة تبدو نتيجة طبيعية للظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء الأطفال الذين اعتادوا على استنشاق وتعاطي مادة الميثانول القاتلة التي تدمر الكبد والبنكرياس وشبكية العين. مادة الميثانول، التي تسهب الرواية في شرح تركيبتها وخواصها، هي مادة مسكرة، تحضّر بطرق تقليدية بدائية، ويتناولها أولئك الأطفال هرباً من واقع يفوق طاقتهم على التحمل. «مخيلة الخندريس»، بهذا المعنى، هي الملاذ الحالم الذي تهفو إليه أرواح الأطفال الجريحة، ومن هنا جاءت المفردة المستخدمة في عنوان الرواية «الخندريس»، وهي تعني «الخمر المقطر»، وفق استخدام المتنبي لها في قصيدة يتفاخر فيها الشاعر بأن معاطاة «الصفائح والعوالي» ألذ من «المُدام الخَنْدَرِيس».
على خلفية هذه اللوحة القاتمة لأطفال الشوارع، يمضي بركة ساكن في بناء عالمه الروائي الذي يمتزج فيه الخيال بالواقع، والوهم بالحقيقة، ذلك أن خيطاً رفيعاً؛ واهياً يفصل بين الضفتين. يغوص الكاتب في تفاصيل المجتمع السوداني ويتناول خصوصيته عبر مواقف وحالات إنسانية مؤثرة تتجاوز موضوعة أطفال الشوارع، على أهميتها وخطورتها، لتلامس ملفات أخرى مماثلة عن الفساد والقمع والتجاوزات والخوف الخفي وسطوة السلطة الرسمية التي تسعى إلى تلميع صورتها عبر وسائل الاعلام والشعارات المزيفة، فيما الواقع الصاخب يدحض تلك الوعود والإنجازات الوهمية.
سرد وتوثيق
الرواية، في وجه من وجوهها، تمثل إدانة للموقف الرسمي الذي أهمل تلك الشريحة، ولو أعدنا إلى الأذهان مقولة كانط: «لو كانت سعادة العالم بأسره مرهونة بقتل طفل بريء، لاعتبر قتل ذاك الطفل جريمة لا تغتفر»، لعرفنا مقدار الخطأ الجسيم الذي يرتكبه المسؤولون بإهمالهم لتلك الشريحة، وتعففهم حتى عن الحديث الشفاف عن معاناتها المرعبة.
وبالتوازي مع هذا السرد الشجي الحزين، المكتوب بنبرة سوداوية مؤلمة، ثمة توثيق لجانب من العادات والتقاليد السائدة في السودان حول نظرة المجتمع إلى الأرملة، وموقع المرأة ودورها وخياراتها، وشكل العلاقات الاجتماعية... وكل ذلك عبر عيون شخصيات روائية تتمتع بحس نقدي وتسعى إلى الكشف عن المستور والمخفي، بدءاً من الراوية سلوى ووالدتها وصديقها عبد الباقي وصولاً إلى الصحافية حكمة رابح، والشاعر عثمان بشري والصحافي أحمد الباشا وعدد من الأطفال والمشردين الذين يجدون حيزاً في متن هذه الرواية طالما حرموا من أي متن في الحياة.
الحياة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.