قبل البدء أشكر كل الذين علقوا مقرظين أو منتقدين و آمل بمعارفي القليلة جدا أن أكون مفيدا ، كما أشكر من راسلوني على البريد الالكتروني و حتى أولئك الذين أغضبتهم كتاباتي .... توقفنا عند عقيدة الحنفاء و سنرى كيف أنهم ملأوا دنيا ذلك الزمان بمعارف عن الحساب من ثواب و عقاب و عن العذاب و النار و الجنة و الخلود و غيره مما تناوله القصص القرآني باستفاضة فيما بعد و نذكر منهم عبد المطلب الذي كان يتحنث في غار حراء صائما في شهر رمضان و الذي سمّى حفيده محمدا ، و قد أوردت السيرة سبعا ممن تسموا بمحمد أوان البعثة لأنه قد شاع أن نبيا سيبعث و إن اسمه محمدا . مستفيدين من الكاتبة العبقرية أبكار السقاف و موسوعتها الشهيرة (نحو آفاق أوسع) و التي اقتبسنا منها أشعارا وردت في المقالة السابقة ، و من كتابها الأخير في الموسوعة :(الدين في شبه الجزيرة العربية) الناشر العصور الجديدة 2000م .. نبدأ بأشعار أمية بن الصلت عن تصوره لخلق الكون : إله العالمين و كل أرض ...... و رب الراسيات من الجبال بناها و ابتنى سبعا شدادا ........ بلا عمد يرين و لا حبال و سواها و زينها بنور .... من الشمس المضيئة و الهلال و تصويره ليوم الحشر : و يوم موعدهم أن يحشروا زمرا ..... يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر و أبرزوا بصعيد مستو حرز ... و أنزل العرش و الميزان و الزبر و أخبر كيف أنه لا بقاء إلا للمقدس ذي الجلال : فكل معمر لا بد يوما ............ و ذي دنيا يصير إلى زوال و يفنى بعد جدته و يبلى ... سوى الباقي المقدس ذي الجلال و كتب عن النار و الجنة و الثواب و العقاب : و سيق المجرمون و هم عراة ... إلى ذات المقامع و النكال فنادوا ويلنا ويلا طويلا ...... و عجّوا في سلاسلها الطوال فليسوا ميتين فيستريحوا ......... و كلهم بحر النار صالي و حل المتقون بدار صدق ..... و عيش ناعم تحت الظلال لهم ما يشتهون و ما تمنوا ..... من الأفراح فيها و الكمال و قال أيضا : رضيت بك اللهم ربا ...... فلن أرى أدين إلها غير الله ثانيا ألا أيها الإنسان إياك و الردى ...فإنك لا تخفي من الله خافيا و كتب عن قصة فداء اسماعيل بكبش عندما هم أبوه بذبحه و هي القصة التي تتطابق مع القصة التوراتية لكنها تختلف في اسم الذبيح إذ هو اسحاق في التوراة و أورد في شعره قصصا كثيرة يضيق المجال عن إيرادها منها قصة لوط و خراب سدوم و قصص فرعون و موسى و هارون و قصة مريم العذراء و حملها بالسيد المسيح و قصة يونس و الحوت و قصة الفيل . نتعرض لبعض أشعار زيد بن عمرو بن نفيل (مات قبل البعثة بخمس سنوات كما ذكر الشهرستاني في الملل و النحل في الجزء الثالث و كما ورد في قصة الشاة التي أوردناها أنه عاصر الرسول (ص) ) يقول عن التوحيد و الثواب و العقاب: أربا واحدا أم ألف رب ...... أدين إذا قسّمت الأمور عزلت اللات و العزى جميعا .... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عزى أدين و لا ابنتيها ...... و لا صنمي بني عمرو أزور و لكن أعبد الرحمن ربي ........ ليغفر ذنبي الرب الغفور إلى أن يقول : فترى الأبرار دارهم جنان .... و للكفار حامية السعير و يخبرنا عن استسلام الأرض لربها و كيف بسطها على الماء : أسلمت وجهي لمن أسلمت ..... له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما رآها استوت .... على الماء أرسى عليها الجبالا و أغلبنا يذكر خطبة قس بن ساعدة : أيها الناس اسمعوا و اعوا ، من عاش مات و من مات فات و كلما هو آت آت ، ليل داج و سماء ذات أبراج .... الخ ، و قد كان النبي (ص) يعجب بخطبه و فصاحته كما جاء في السيرة ... و نظم الشعراء من غير الحنفاء أشعارا تحدث عن الثواب و العقاب و كريم الخلق . لم تكن الأشعار وحدها هي التي تنشر ثقافة ذلك الزمان فقد كانت ظاهرة الكهان ذات أثر كبير على الثقافة السائدة . أثرها الخطير يأتي من أن سجع الكهان كان مرتبطا بالغيب ، فهو إما من الرئي (الجن) أو من مصدر سماوي . كانوا يعتبرون أن الجن يمكنه التلصص على السماء فيعرف أخبار ما غيّب عن عقولهم ، لذا كانوا يأتون الكاهن لاستفتائه فيما هو غيب . نعرف قصة اتهام السيدة هند زوجة أبي سفيان بالفاحشة و كيف برأها الكاهن . و كانت العقيدة السائدة إن الكاهن تتلبسه غالبا حالة (الاكستاز أي الوجد الصوفي ) عندما يأتيه خبر الغيب ، و هي حالة تشبه الصرع عند بعضهم أو الدخول في غيبوبة . في الغالب لم يكن الكاهن يكذب لكنه ربما من النوع الذي تأتيه نوبة الهذيان التي يستدعيها بإرادته أو تداهمه رغما عنه مثل أنبياء بني إسرائيل أو أنبياء ساحل العاج أو أنبياء أمريكا اللاتينية في أيامنا ، و هي حالة تعرف اليوم بهذيان النبوة ، يعاني فيها الكاهن أو المتنبئ مما يعرف ببرحاء الوحي ... من المؤكد أن الكاهن يرى هلاويسه المنداحة من داخل دماغه و هي حالة وصفناها في مقال سابق عن من يدعي أنه المهدي المنتظر و قلنا حسب الأخضر العفيف الأخضر : (إنها أونيرزم ، و هو حلم هاذي يخرج بقوة من نور الوعي الخافت.يمكن أن ُنكوّن عنه فكرة من الصور النعاسية ، اللواتي يعرفهن كثير منا ، بشكل طبيعي عندما يكون على حافة النوم . في الأونيريزم ، التجربة تستمر طويلاً بما فيه الكفاية،حتى تنتظم الصور في رؤى ، مع كثافة دراما ملأى بالإنفعالات في تسلسل يسمح بروايتها في ُرؤى . الهاذي يعيش اقتحام عالمه الخيالي ، كعملية خلع لباب وعيه ، من منتجات مسرحية لا يتعرّف على نفسه فيها ، فينسبها لقوة خارجية). كان سجع الكهان في فترة ما قبل البعثة يسحر العقول و يأخذ الألباب بفواصله القصيرة البليغة ، إلا أنه كثيرا ما يتميز بفخامة اللغة من غير اهتمام بالجوهر و بتكرار المعاني خاصة تكرار القسم الذي يأتي خبره متواضعا ، أورد ابن هشام سجعا لربيعة بن ربيعة يقول فيه : " و الشفق و الغسق ، و الفلق إذا اتسق ، إن ما أنبأتك به لحق ." و قد تعرضنا لسجع الزبراء الكاهنة التي عاشت في الفترة قبيل البعثة و عاصرت البعثة ، و هي أمة من مولدات العرب سيدتها عجوز تسمي خويلة من بني رئام إحدى بطون قضاعة ، و تعرضنا لسجعها : واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنجم الطارق والمزن الوادق إن شجر الوادي ليأدو ختلاً ويحرق أنياباً عُصْلاً. وإن صخر الطود لينذر ثُكلاً لا تجدون عنه مَعْلا فوافقت قوماً أُشارى سكارى.... و نعرف قصة الخلاف بين هاشم بن عبد مناف و أمية بن عبد شمس و كيف احتكما للكاهن الخزاعي الذي حكم بنفي أمية للشام عشر سنوات ، قال الكاهن : " و القمر الباهر ، و الكوكب الزاهر ، و الغمام الماطر ، و ما بالجو من طائر ، و ما اهتدى بعلم مسافر من منجد و غائر ، فقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر ." نلاحظ أن كل تلك المقاطع المتكررة من القسم ، نتيجتها أن هاشم أفضل من أمية ، كان يكفيه القول مثلا : و القمر الباهر ، سبق هاشم أمية إلى المفاخر ....... كان السجع يفتتح بالقسم بالظواهر الطبيعية و كان رمزللبلاغة و دليل على اتصال قائله بالغيب . كانت قريش تعرف دين الصابئة الذي كان منتشرا في العراق و بعض أجزاء من الشام . كان الصابئون يعتقدون في إله ساكن السماء يتم اتصاله بسكان الأرض بواسطة ملك مبعوث لمن تمّ اصطفاؤه من قبله . كان الصابئة يصلون خمس صلوات ، ثلاث في النهار و إثنتان في الليل ، و كانوا يغتسلون من الجنابة و يتطهرون قبل الصلاة و كانوا يحجون للكعبة كما تفعل العرب و كانوا ينحرون في اليوم العاشر من ذي الحجة في يوم عيد الأضحى كما أورد الشهرستاني في الملل و النحل (الجزء الثالث) . كان الصابئة يصومون شهر (ناتق) و النتق معناها الصوم ، و عندما انتقلت أسماء الشهور عن لغة العرب العاربة ، نقلت حسب حال المناخ وقتها و كان ناتق في زمن رمضاء حارة فسمي رمضان ... سنواصل إن بقي في العمر بقية .... [email protected]