أنت يا مايو الخلاص.. يا جداراً من رصاص ..و احتفالاً للقصاص من عدو الشعب في كل مكان .. من عدو الشعب في كل زمان ! هكذا غرد محمد وردي بكلمات محجوب شريف قبل تحولهما اللاحق بعيداً عنها رحمهما الله ، حينما فرحا مع بعض أهل اليسار الذين هللوا ترحيباً برفع الرايات الحمراء في مواكبهم الهادرة عقب إنقلاب ما سمي بثورة مايو في الخامس والعشرين من الشهر الأفرنجي الخامس في العام الميلادي 1969.. فخطب رئيس مجلس قيادة الثورة العقيد حينها جعفر محمد نميري عليه الرحمة بصوته المبحوح، إن أحزاب الأمة والإتحادي الديمقراطي وأتباعهما من الأخوان المسلمين هم أعداء الشعب ! ومن هنا تتضح الصورة من حيث دوافع وأسباب تاييد اليسار وإن لم يكن مجتمعاً لهذا الإنقلاب على خلفية الغبن الناجم عن تحالف من نعتوهم باعداء الشعب ، ولسنا في حاجة للتذكير بحادثة المعهد الفني التي إتخذها الأخوان المسلمون كحصان طروادة الذي إصطحبوا فيه الأحزاب الطائفية في هجمتهم لحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين من قبة البرلمان قبل قيام الأنقلاب بثلاث سنوات أو نحو ذلك ! إلا أن الشيوعيين ما لبثوا أن إختلفوا في تقييم الحدث الكبير بين من قال إنه ثورة ستقود الى إنفاذ برنامجهم الإشتراكي وانها إختزلت لهم الطريق الوعرة لثورة الشارع التي يقودها عناصر الطبقة البلوتارية من العمال والفلاحين ! وبين فريق قال إنها إنقلاب قام به ضباط تصنيفهم الطبقي يقع في مربع البرجوازية الصغيرة التي يمكن أن تبيع مصالح جماهير الثورة متى ما تعارضت مع مصالحها الذاتية ..! ولعلنا في حلٍ من الوقوف طويلاً في مجموعة الأحداث التي دفع ثمنها اليسار ممثلاً في الحزب الشيوعي الذي كان الأقوى من بين أحزاب افريقيا والعالم العربي ،بشقيه المؤيد لمايو والذي إندثرت ملامح شخصيته وتماهت في إشتراكية مايو الشوهاء التي إندغمت في شخصية النميري المتسلطة وتقلباته غير العقلانية في كل الإتجاهات حفاظاً على سلطته تحت عريشة الإتحاد الإشتراكي كراكوبة الخريف التي تستند الى ركائز القوات المسلحة و يغطيها سعف المثقفين الذي إنسلخ عن نخلة دوره الريادي وجعل من نفسه جزءاً من مظلة ذلك النظام ! أو ذاك الشق الذي حاول بدوره إصلاح خطأ مايو بخطأ إنقلاب يوليو 1971 الذي كان وبالاً على ذلك الحزب وقد ظل يعاني من كل تلك التداعيات الى عهد قريب وإن بدأ يتعافى تدريجياً بإشهار معارضته للإنقلابات والديكتاتوريات كنهج للحكم بصورة مطلقة بعد محاولة لملمة أطرافه وشعثه من جديد! بيد أن بداية الخلاص المايوي المزعوم قبل ذلك كله من أعداء الشعب باستثناء أهل اليسار ، لم تصمد كثيراً حتى عاد أولئك التابعين لأعداء الشعب كما وصفهم النميري ليصبحوا أصدقاءه الذين جعلوا من كاسترو مايو الثائر إماماً للمسلمين في خدعة قادت الوطن لسبع سنوات من حكم كان قد تحول الى مسرحية هزلية ، ارجوزها الرجل القوي الذي ضعفت قبضته على سيف حكمه ، فأسلمه لجماعة الأخوان المسلمين وأتباعهم من أهل الهوس الديني والدروشة الصوفية ليعملوه أداة للقتل والتقطيع والصلب في جسد المجتمع باسم الدين ! بالطبع فلابد من تقييم كافة سلبيات أى حاكم أو سلطة ومحاسبتهما ، مثلما لا يمكن تجريد سلطة حكمت لمدة ستة عشر عاما من أية إنجازات أو التي حكمتنا لاحقاً لمدة ربع قرن بحاله ، بيد أن العبرة دائماً تكون بالنتائج وهي بلا مراء أو تنطع كارثية في الحقبتين بالدرجة التي جعلت الأولى تكون جسراً قاد الى ديمقراطية عرجاء لم تستطع الصمود إلا ثلاث سنوات وسط غبار الفوضى التي أثارته جماعة الإسلام السياسي الأكثر جاهزية في الهمينة على مفاصل الدولة الإقتصادية و الأمنية والعسكرية ، فتسللوا من خلف العيون التي أعماها ذلك الغبار للقفز الى سدة السلطة ، فجاءت الإنتكاسة الكبرى في يونيو 89 التي اتت على ما تبقى من شكل اللحمة الإجتماعية وبوادر المخارج السياسية التي كان من الممكن أن تكون الترياق الذي يؤدي الى علاج علل الوطن لو أن القوى السياسية التي خرجت مشلولة هي الأخري من معركة مايو الطويلة قد صبرت على مكابدة العلاج الطبيعي بغرض معافاة وتقوية جسدها في تحّمل مسئؤلياتها الوطنية باخلاص وتجرد من الإحن والصراعات الإنصرافية بعيداً عن نهج الديمقراطية والمرامي الوطنية ! ولو أن الإسلاميين كانوا قد خيبوا ظن من ظلوا ينعتونهم بعدم الإيمان والصبر على إمساك جمرة الشفافية طويلاً ، ولكنهم أكدوا ذلك الإتهام بصورة عملية قادت الى إنتكاسة وطنية وو هدة سياسية لن يقوى الوطن على القيام منها إلا بمقدار الزمن الذي جثموا فيه على أنفاسه..! وتحضرني هنا طرفة الشاعر الساخر الراحل أبو آمنة حامد طيب الله ثراه ،الذي قال ، نعم لو فرضنا أن مايو نميري كانت ديكتاورية وعليها ما فيها من الأخطاء مثلما لها من إيجابيات ، ولكن قياساً لما فعلته إنقاذ البشير من فظائع مقارنة معها يجعل من نميري في رقة صوت ليلى المغربي عليها الرحمة ! ولكن كل هذا في مجمله وفي نهاية الأمر هو ما يؤكد أن الخلاص لا يتأتى بالإنقلابات التي تستبق التغيير الجماهيري على كرسي الثورة الحقيقية التي تخرج من ثنايا الشارع كما ينبغي لها أن تكون الثورات ، وإن رفعت شعار الثورة اليسارية..! وإن الإنتكاس بالمقابل قد يتأتى من شعارات الإسلام السياسي مهما دغدغت العواطف طالما أنها إتخذت درب الإنقلاب وصولاً الى السلطة بعيداً عن الشورى التي تتمثل في الديمقراطية التي تواكب العصر الحديث شكلاً ومضموناً ! فكلا الخيارين شبيهان ..كشبه الأول للذئب الغادر..وشبه الثاني للثعلب الخداع ..! وهكذا سقط الوطن المسمى بالسودان في فجوة إغتيال الثورات الشعبية بل وأدها في مهدها وبالتالي تعثرالمسيرة عبر عرج الديمقراطيات ناقصة الإستحقاق من حيث عدم توفر الوعي الجماهيري الحاضن والحامي لها .. ونفاق القادة المتخذين لها كوسيلة وليست غاية.. فسحبتتنا تصرفاتهم لثلاث مرات من حيث نقاط ضعفهم الى مزاعم الخلاص بالشعارات الجوفاء التي أوصلتنا الى قمة جبل الإنتكاسات الذي وقف حائلاً بين وطننا وشعبنا وسيره في الطريق التي قد تؤدي الى المدى الأدنى من محطات التقدم .. ووا أسفاه ..! [email protected]