هم كبير يصيبني عندما أجلس لكي أكتب مقالاً، فقد كتبت كلما يمكن أن يكتب وأكثر شيء لا أطيقه هو تكرار الكتابة عن أمر واحد، فالكاتب يقدم فكرة ويقوم بشرح هذه الفكرة في مقالات عديدة يفصل فيها الفكرة ويجري عليها تشريحاً حتى يفهمها الناس. وحين تقدم هذه الفكرة ترجو أن يتناولها أولي الأمر بالدراسة والتمحيص ويتم ذلك عن طريق مراكز دراسات مؤهلة ومستقلة لا كتلك التي نراها منتشرة لا تقدم الدراسات المفيدة، وقد أنشئت خصيصاً لتصبح وسيلة لأكل عيش البعض الذين لم تستوعبهم الوزارات والسفارات. ميزانية الأبحاث في غالبية البلدان النامية تعادل ما بين اثنين إلى اثنين ونصف في المائة من الناتج القومي الإجمالي وهذه النسبة قد لا تكفي، في حين أن دولاً كأمريكا واليابان تفوق هذه النسبة العشرين والثلاثين في المائة، وقد ارتفعت هذه النسبة في تلك البلدان لأن الشركات الخاصة تفرز نسبة مقدرة للأبحاث العلمية من ميزانياتها هذا إلى جانب الدولة. البحث العلمي في بلادنا مهمل تماماً فكل الأبحاث تنحصر في كيفية المشاركة في الحكم وسبل الجلوس على كرسي الحكم، وأكثر الأبحاث التي تجري في بلادنا هي كيفية الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري أو تزوير انتخابات أو التحالفات المريبة. وحتى هذه الأبحاث لا تجري في أجواء بحثية حقيقية إنما في جلسات سرية، ورغم سريتها تتسرب المعلومات عنها، و وسط هذا الجو غير الصحي تكثر الشائعات التي تشوش على التفكير السليم، وفي أكثر الحالات تصبح الشائعة حقيقية. غياب الأبحاث الزراعية كان سبباً في انهيار أكبر مشروع زراعي في أفريقيا وأعني مشروع الجزيرة، فإنتاج الفدان في السودان رغم خصوبة أرضه هوالأدنى في العالم، وبسبب هذا أصبح السودان الذي يتفاخر به البعض بأنه سلة غذاء العالم، أصبح متسولاً للغذاء. في حين أن السودان وعبر دراسات علمية حقيقية أجرتها أكبر مراكز البحث العلمي الأمريكية، التي تقول إن العالم في العام الفين وخمسين سيعاني أزمة غذاء طاحنة وسيعتمد في غذائه على ثلاث مناطق في العالم وهي أمريكا الشمالية واستراليا والسودان. هذا السودان الذي ينتظره العالم بفضل أنظمة الحكم فيه أصبح متسولاً للغذاء، وسبب هذا أن كل الذين حكموا السودان ليست لديهم الرؤية للنهوض بالسودان غذائياً، ليس للسودانيين فحسب بل للآخرين، والذي لا يملك قوته لا يملك قراره وهذا أول شعار نزل به هذا النظام للأمة السودانية. غياب الأبحاث جعل من النفرة الزراعية مجرد شعارات جوفاء، تبددت فأصبحت النفرة مجرد نفخة فارغة بلا صدى، واستبدلت بالنهضة الزراعية بذات أولئك الذين فشلوا في النفرة وما حصد السودان إلا النكبة الزراعية وطارت المليارات أدراج الرياح. ويقول المثل السوداني ما معناه أن الذي يجرب ا لمجرب ندمان، والغريبة ألا أحد ساوره الندم، واستمر الفشل في إدارة البلاد مستخدماً الفاشلين في هذه الإدارة. ونسمع في الأخبار عن تخلص الدولة من مصانع السكر لأنها تكلف الدولة بأكثر مما تنتج، ولكن لا أحد بحث في أمر هذه المصانع بحثاً علمياً صحيحاً، لماذا التردي في أداء تلك المصانع؟، والتردي سببه إدارة هذه المصانع، فالمصنع مجرد آليات صماء تعمل إذا أديرت إدارة حكيمة، وهذا ينطبق على وزارة الصناعة وإدارات هذه المصانع ولنا أن نسأل سؤالاً مشروعاً، لماذا يعمل مصنع كنانة بكفاءة، بينما تعمل المصانع الأخرى بكفاءة متدنية، في حين أن الارض هي الأرض والماء هو ذات الماء والعاملون هم ذات العاملين..؟! لم يدرس أحد أسباب التدني، بل توصل إلى لحل مريح بالنسبة له هو التخلص من المصانع وإبقاء الفاشلين الذين أداروها بدءاً من الوزارة ومروراً بمجالس إداراتها، وهي العناصر الأساس في الفشل. والفاشلون بعد التخلص من مرافقهم يتولون إدارات أخرى تكون ذات النتيجة وتتعرض هذه الإدارات أيضاً للبيع والتصفية ويبقى الداء دون دواء. سياسياً كثرت الأحزاب وكثرة الاحزاب تدل على أمر واحد وهو ضياع القدوة وغياب المنهج والاختلاف الجذري في الرؤى، فلكل رؤيته الخاصة به بنى على أساسها حزباً سياسياً، وهذايعني غياب الثوابت التي لا يختلف عليها، فلكل حزب ثوابته الخاصة وهذه الثوابت خاصة برئيس الحزب دون غيره. وكثرة الأحزاب تذكرني بما يعرف بعجل السامري، فالكل صنع لنفسه حزباً «عجلاً بلا خوار» فالخوار انفرد به حزب النظام الذي أخذ خواره في التلاشي، فدعا الأحزاب للوثبة والاندغام على طريقة الأصمعي في قصيدته صوت صفير البلبل. سامري واحد استطاع قلب موازين الإيمان في قوم موسى، فكيف بمئات السامريين اليوم في السودان، وحتى في هذا اختلفت الأحزاب ذات الاسم الواحد فهناك سامري أصلي وسامري تايواني. ولو بحثنا في أثرهم على المواطن لوجدناه صفراً، لذلك هم لا يلجأون إلى الشعب ولا يحتكمون إليه ويقيمون التحالفات بينهم وبين السامري الأكبر حتى يصلوا إلى مأربهم وهو كرسي السلطة. هذه الحال السياسية والاقتصادية لا تقود في هذه الأجواء إلا إلى الفوضى التي تأخذ البريء بذنب المذنب وفي حالة الفوضى تختفي المعايير الإنسانية والدينية التي عرف بها الشعب السوداني، والفوضى يقوم بها أولئك الذين لا يملكون فليس لديهم ما يخسرون، وأول بشارات هذه الفوضى الاعتماد على غير الأجهزة الأمنية لحماية ما تبقى من الدولة. يجب على النظام أن يكون جاداً فيما يعرض من حوار، فما قدمه لا يعدو أن يكون مخدِّراً موضعياً يزول بعد فترة وجيزة وعندما يزول أثر التخدير تقع الطامة. [email protected]