كلنا نعلم إن الديمقراطية الكلمة ذات الأصل الاغريقى وتعنى حرفيا حكم الشعب. ومفهومها حكم الشعب بواسطة التفويض الانتخابي لممثلين عنهم مناط بهم إصدار القوانين و انتهاج السياسات التي تخص حياة الشعب عبر المدأولة والتصويت حيث الغلبة للأكثرية العددية ، وفي حالة تسأوى الأصوات يكون هنالك صوت ترجيحي يمنح للرئيس المنتخب. والأصل الممارس هو إن ترضخ الأقلية وتنصاع لرأى ولقرارات الأغلبية ... حتى وإن لم تكن الأقلية على اتفاق معها فعليها قبولها والتعايش معها. والممارسات الديمقراطية اللاحقة وضعت الكثير من القيود لمنع احتكارية السلطة للرئيس المنتخب مثل تحديد فترة الرئاسة لدورتين لا أكثر لما لذلك المنصب المهم من أدوار محورية كثيرة ، وكذلك من اجل التدأول السلمي للسلطة. والمعروف إن أهل الحضارة الإغريقية قبل حوالي ألفين ونيف من السنين هم من ابتدعوا فكرتها وقاموا بتطبيقيها في مدينة أثينا القديمة والتي لا زالت فيها آثار الإستاد ( البرلمان) الذي كان يجتمع فيه معظم أقطابها ويتدأولن فيه أمورهم المجتمعية والسياسية والقانونية وإصدار تشريعاتهم و أحكاهم القضائية الواجبة التطبيق والملزمة للجميع. وكان أشهر فلاسفتهم آنذاك سقراط ، أفلاطون ، أرسطو وغيرهم وهولاء هم من فكروا ووقفوا على تطبيق المفهوم الديمقراطي في تلك المدينة . ومن المؤسف حقاً... أن الأغلبية في البرلمان الإغريقي صوتت في الحكم القضائي الشهير بإعدام مبتدع الديمقراطية- المفكر سقراط- في قضايا فكرية مختلف عليها... و لكن بالرغم من وجود فرص كانت متاحة سقراط للهرب من معتقله إلا أنّه فضل التضحية بنفسه في سبيل بقاء وخلود الديمقراطية التي ابتدعها. .... هكذا هي عجائب الأقدار وهنا ربما نجد السلوى لذلك المفكر فيما قاله الشاعر العربى : اعلمه الرماية كل يوم ولما اشتد ساعده رمان. ولكن يبدو أن المغزى الأعمق المستفاد من كل ذلك هو ما فسره لاحقا علم الاجتماع السياسي وهو باختصار يهتم بدراسة تقبل المجتمع لاى تغيير ناتج عن أفكار أو سياسات جديدة لان الإنسان بطبعه يقاوم ويرفض تغيير ما اعتاد عليه وبل لا يتقبله. فسقراط نفسه أتى بمنظومة أو مجموعه من الأفكار... ولكن المجتمع الإغريقي القديم تقبل جزءاً من أفكاره ورفض وقاوم الجزء الأخر. وهكذا كان الحال لجميع المرسلين من رب العالمين... فمثلاً الرسالة المحمدية الخالدة جوبهت بمقاومة عنيفة من أهله المقربين وعشيرته والقبائل العربية الأخرى لدرجة محاولة قتله . فالعرب اعتادوا على فعل أشياء وممارسات اجتماعيه مثل عبادة الأصنام وشرب الخمر ووأٌد البنات والتميز العرقي الذي يؤدى إلي استعباد الغير وخلافه... وسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم يدعوهم إلي فضائل الأعمال ونبذ وترك تلك العادات والممارسات الجاهلية. فالعذر والسلوى لسيد الصادق المهدي إمام الديمقراطية في معتقله بسجن كوبر لأن المجتمع السوداني بتركيبته الحالية لا يزال يمارس "التمارين" الديمقراطية كما أشار لذلك الإمام بنفسه .... أي في مرحلة الإحماء الرياضي قبل المباراة وهى فترة يتوقع فيها حدوث بعضاً من الأخطاء. نحن هنا نحاول إبراز بعض أوجه التفكير الديمقراطي المتقدم لدى السيد / الصادق المهدي من خلال بعض الأحداث والممارسات والمواقف كأمثلة يستحق عليها تصنيفه إماماً للديمقراطية السودانية وهو سابقٌ لزمانه و ربما لمكانه كما يتبين ذلك لاحقاً . فالديمقراطية الممارسة الآن في دول العالم الأول تعنى فيما تعنى ممارسة الحرية الفردية للأشخاص في اختيار الدراسة أو المهنة أو غيرها. فنجد مثلاً الرئيس جورج بوش الأب قد حكم الولاياتالمتحدةالأمريكية عن الحزب الديمقراطي ، بينما ابنه الرئيس جورج بوش حكمها لاحقاً عن الحزب الجمهوري المنافس... ولا غضاضة في ذلك ، فلكليهما "آل بوش" مفهومه وقناعته لان ينضم لما شاء من الأحزاب. فليس من سلطة أبوية تفرض ما تراه وتعتقده على الأبناء فلهم حرية الاختيار. إذاً السلطة أو التسلط الأبوي (أو الأمي) في التربية ليس من الأصول الديمقراطية بل تعارضها وحتما لا تؤدى إليها. بينما ثقافة مجتمعنا السوداني هي ثقافة الوصاية المفروضة وبهذه الكيفية هي ضد المبادئ الديمقراطية. وبالتالي إذا كان المجتمع لا يمجد الديمقراطية خصوصاً في مبدأ الحرية الشخصية للإفراد ، فأنّي يجدها .... الإمام الصادق في هذا المنحنى نجده أكثر ديمقراطية عن مجتمعنا بمنحه أبناءه حرية الاختيار الفردي في مسار حياتهم دونما أي قيد أو وصايا مفروضة. وكما نعلم بأنه نصحهم بالتحصيل الدراسي الجامعي لما يرغبون فيه. ولهم حرية الولوج لارتياد المهن التي تضمن لهم عيش كريم دون الاعتداد بولوج السياسة لأنه قطعاً عانى ما عانى منها. وحسب علمنا فإن الإمام الصادق المتقدم في فهمه الديمقراطي في هذا المضمار متفهم جداً لدور أبناءه سواءاً في القصر أو جهاز الأمن فهم يمثلون تلك المؤسسات والتي يناهض سياستها ،،، ولكن بمعيار سلطوي أو أبوي أو عاطفي قد يدين المجتمع وجود إبنيه في تلك الوضعية فيضغط عليهما للخروج منها وفقاً لمفاهيمه للديمقراطية ، لا الفردية كما في أصولها في العالم الأول. وهنا لابد من الإشارة لصعوبة تغيير العادات المجتمعية الراسخة عموما ودور رواد التغيير السياسي في مجابهتها وتحدياتهم . فمثلاً من العادات المجتمعية السائدة في السودان "ختان الإناث" كعادة فرعونية قديمة قدم أهلنا النوبة. فقد تصدى لها الإمام عبد الرحمن المهدى بشجاعة نصيراً لحق المرأة في أن تكون "سليمة " كما أحسن الله خلقها . وقد كان معه الشيخ بابكر بدري مؤسس مدارس الأحفاد وغيرهما من الأوائل الداعين لذلك رغم مناهضة المجتمع لتلك العاده محققين في ذلك نجاحاً نسبياً لمحاولة منعها. ولا زالت حملات "سليمة التوعوية مستمرة منذ ذلك الحين. وقد عملوا آنذاك على منعها بواسطة إستصدار القوانين المانعه عبر البرلمان وهذا من المفاهيم الديمقراطية في العالم الأول . ولكن بالمقابل نجد أن تقبل المجتمع السوداني لإحترام أو الإلتزام بالقوانين المشرعة ديمقراطياً كالتشريعات المانعة أو المنظمة قد يكون ضعيفا. وهذا بلا شك يضعف احد أهم أركان الديمقراطية. فالقوانين أصلا تم وضعها بواسطة مجلس تشريعي مكون من أعضاء منتخبين وفق تفويض شعبي لتمثلهم. والقوانين أيضاً وضعت لتنظيم ووضع حدود لحريات الإفراد وتأطيرها. فأنت حر فيما تفعل شرط ألاّ تتعارض حريتك مع حدود حريات الآخرين. فمثلاً القوانين التنظيمية البسيطة للمرور حيث يجب أن تلتزم بمسارك وبسرعتك في طريق المرور السريع وهذه حدود حريتك. ولكن عندما تقرر أن تسير في المسار الآخر وتزيد من سرعتك فهذا تعدى على حرية وحقوق الآخرين وحتما يؤدى إلي الحوادث المرورية التي تزهق الأرواح . فنجد الفهم المجتمعي لقوانين المرور ضعيف. وبل قد نجد الشعور العام يحث على ضرورة تحديدها دوما. وقد نجد الكثير من السائقين قد يتخطون الشارة الحمراء عمداً بعد التأكد من عدم وجود شرطي للمرور. وهذا السلوك يحتاج منا إلي وقفة تأمل وتحليل... لماذا هذا الشعور المجتمعي نحو محاولة تحدى القوانين أو الالتفاف حولها؟ لعلنا قد نجد الإجابة في وصف البروفسير عبد الله الطيب بأن ثقافة المجتمع السوداني في عموميتها ثقافة رعاة "وهذا ليس بعيب إنما سمة " حيث دلّل على ذلك بالنقل الشفهي للإحداث عن طريق التواتر وليس عن طريق التوثيق الكتابي. وإذا ما تأملنا حياة الرعاة نجدها لا تتقيد بحدود ... ودائماً ما يسرحون في "أرض الله الواسعة" وقد تكون هذه الأرض مملوكة لأشخاص وهم يقومون بزرعها فتتلف ماشيتهم زرع الآخرين. وقد يجد الكثير من المجتمع المثقف ذاته عند ترديد أغنية الفنان المرحوم /مصطفي سيد احمد "والله نحن مع الطيور الما بتعرف ليها خرطه .... ولا في أيدها جواز سفر"... وقد يكون الكثير من القوانين قد وضعها المستعمر التركي أو البريطاني دون إشراك الشعب فيها ونفذها ذلك المستعمر عن طريق القهر أو الزندية ... لذلك صار تحدى القوانين عموماً من البطولات الشعبية وصارت سمة عدم التقييد بالقوانين من الثقافات المجتمعية وصار التحايل أو الالتفاف حولها إفرازاً طبيعياً لها. وبتلك المفاهيم حول القوانين قد تم تمييعها بحيث تقبل الكثير من التفسير والاستثناءات. فمثلاً المادة (50) من القانون الجنائي عقوبتها الإعدام وبالتالي لا يجوز إطلاق سراح المتهم بموجبها ..... ولكن قد يختلف فقهاء القانون في تكييف الحدث مع الوقائع الماثلة. فمثلاً المادة تلك تتحدث على تقويض النظام القائم. ولكن هل يؤدى الحديث المجرد إلي ذلك التقويض ؟ قد تجد من يجيب بنعم. وهذا حالنا في العالم الثالث ولابد للديمقراطية إن تطّور مفهوم المجتمع وتقوده إلي سيادة حكم القانون . وهذا هو دور من الأدوار التي لابد للأحزاب السياسية- والتي هي وسيلة من الوسائل التي تتحقق بها الديمقراطية- من أن تغّيره. لقد طبقت ذلك المبدأ وعضدت حكم القانون ليسود في المجتمع عندما كنت رئيساً للوزراء إبان العهد الديمقراطي (1986-1989) حيث نصحت ووجهت أهلكم من آل المهدي ، وأنت منهم لكم نصيباً، في موضوع تعويضاتهم الشهير بأن يذهبوا إلي القضاء بدلاً من أن تمنحهم له بمجرد قرار منكم وبجره قلم . هذا ديدن أو سلوك ديمقراطي متطور وراق. وهذا ربما يقودنا إلي الحديث عن مسالة التطور الحزبي كأداة من أدوات الديمقراطية. فحزب الأمة نشأ بروح طائفية. والطائفة بها إمام أو شيخ أو مرشد مسئول عن رعاياه إرشاداً وتوجيهاً. وكذلك لها التزامات أخرى متوقعة مثل حسن الضيافة والكرم السوداني المعروف لدى زوار ومريدي اى طائفة أخرى في السودان . فالمريدون يأتون إلي " تكية" الشيخ ليجدوا فيها ما يحتاجون من أكل وشراب. فشاعت هذه الثقافة في الأحزاب السودانية وصارت عبئاً مالياً ثقيلاً على زعماء الأحزاب السودانية الرواد ومن ورثوهم. في المقابل نجد إن الأحزاب في بلدان العالم الأول مبنية على مبدأ الحقوق والواجبات. ومن بين الحقوق إن تعبر عن رأيك بكل صدق وشفافية بشرط أن تكون أوفيت ما عليك من حقوق والتزامات والتي أقلها سداد قيمة الاشتراك في الحزب لتسيير أموره شأنه شأن الانتماء إلي أي ناد رياضي أو ثقافي أو مهني. يبدو هذا إنه المفقود في الأعضاء المنتمين للأحزاب فهم يطالبون بالحقوق دون الالتزام بالواجبات والتي من بينها الالتزامات المادية. وهذا يضع رئيس أي حزب في موضع لا يحسد عليه من تضحية مادية جسيمة ووضع نفسي مرهق. فمثلاً فان ما اكتسبه من دخل لأسرته... عليه مشاطرته مع حزبه. وما ابلغ تبرعكم بإحدى سراياتكم في ود نوباوى مقرا لهيئة شئون الأنصار ولنا أن نتخيل كم عدد زوار الإمام الصادق في منزله يومياً؟ فقط لو كان الكرم السوداني البسيط من عصير وشاي وبلح فما هو حجم الصرف ؟، وهذا ما يتوقعه منه المجتمع لتقديمه لاى زائر كبير المقام أو صغير . مقارنه بأنه لا أحد يزور روساء الأحزاب السياسية في دول العالم الأول وفي منازلهم ومعظم المقابلات تتم في دور الحزب أو عبر الوسائط الإعلامية . ثم نأتى إلي فهم تطبيق المفهوم الديمقراطي في داخل حزبكم كتنظيم إداري والذي يناقض المفهوم المجتمعي السوداني حيث المطلوب في أي قضية أو موضوع مطروح للنقاش أن يكون التصويت هو الحاسم لصالح اى من الآراء أو المقترحات أو القرارات فمتى ما كانت للأكثرية من رأى تذهب الآراء المعارضة إلي مناهضتها بشتى السبل غير الديمقراطية والتي من بينها ترك الحزب وتأسيس حزب جديد. يبدو إنها مبنية علي ثقافة "خالف تذكر" الشائعة فى المجتمع هذه المفاهيم المجتمعى للديمقراطية لا توجد في دول العالم الأول. كما قيل عندنا "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" وهو معلوم لدينا ، ولكنه صار شعاراً أصماً. فاختلاف الرأي عندنا يقود إلي تأسيس أحزاب جديدة وفقاً للمفهوم الديمقراطي المجتمعي حيث قاربت تسعون حزباً كرقم قياسي يُقاس به تخلف دول العالم الثالث من حيث المفهوم الديمقراطى. علما بأن في دول العالم الأول كالولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا نجد فقط حزبين رئيسين يتبادلان السلطة. فعبارة السيد / الصادق المهدي " الباب يفوت جمل" تدل على مفهوم ديمقراطي بأن الأشخاص أحرار في انتمائهم لحزب أو عدمه. وقد تكون أيضاً دليل على إحباط أصاب الإمام من المفهوم الديمقراطي المجتمعي المغلوط. فالمفهوم السياسي المجتمعي له جذور في الاستقلالية الذاتية والاعتداد بها وممارسة بطولات الرفض من خلال افتعال مواقف مناهضة للسلطة القائمة. وقد عبر عنها الشاعر محجوب شريف " ماك هوين سهل قيادك ... سيد نفسك مين أسيادك ". ويبدو إن ذلك هو مشكلة المجتمع أو الشعب السوداني حيث يصعب ضبطه و فق منظومة حزبية سياسية في تنظيم سياسي حزبي كما في العالم الأول. وهذا ما قد يوصلنا إلي قناعات بان الأحزاب السياسية بشكلها الحالي وعلاقتها بمنسوبيها هي عبارة عن منتديات اجتماعية بغرض الوجاهة. وحتى إذا وصفناها بأنها أندية مجتمعية فيمكن تشبهيها بناديي الهلال والمريخ فالشعب السوداني قد يكون نصفه ينتمي إلي هذا أو ذاك ولكن الأعضاء الفاعلين الذين يحق لهم ممارسة العملية الانتخابية التي تأتى بمجلس الإدارة صاحب القرار المباشر في شانها نجدها لا تتعدى الألفين لكل نادي من جملة حوالي عشرة أو خمسة عشرة مليون سوداني والذين تجدهم يتحدثون حديث العارفين والخبراء في كافة المجالات الرياضية المتعلقة بأنشطتهم. ولكنهم فعليا لا يرغبون في الانخراط المباشر عبر سداد قيمة الاشتراكات كأعضاء يكون لهم تأثير ويحدثون تطبيق ما يتحدثون عنه في الهواء الطلق. ونجد أيضا العبء المادي يقع على من يتبوأ إدارتيهما فرئيس النادي فيهما فعليا هو من يصرف عليه وبالتالي له إن يقرر ما يشاء ويتحمل مسئولية ذلك دون الاعتداء بآراء الآخرين وهكذا أحزابنا من واقع الفهم المجتمعي . بالطبع من أقدارنا في دول العالم الثالث إن جل الإثمان للمواقف والآراء السياسية يدفع ثمنها القادة. ففي العالم الأول كما شاهدناه وسمعناه وجه الكثير من القادة انتقادات لاذعة وحادة نحو جيوشهم الوطنية إبان الحروب في الخليج أو العراق . ولكنها تعتبر هناك مجرد أراء لا تغير من واقع الحال الماثل حيث يفعل الجيش ما يفعل في العراق تحت إمرة رؤوسائهم المباشرين إدارياً وتنظيميا وسياسياً. ونجد حتى عندنا في كثير من المناسبات الاجتماعية يتم انتقاد القادة السياسيين من الحزب الحاكم انتقاداً لاذعاً لسياستهم . لكننا نجدهم أكثر صبراً وتحملاً وحتى حكمةً. مما يدل على إن للزعماء أثمان غالية يجب دفعها نتيجة أرائهم أو مواقفهم. فالأصل في الديمقراطية إن الرأي يقارع بالرأي والحجة بالحجة فهذه هى ديمقراطية العالم الأول والتي فيها الشخص مسئولاً قانونيا عن تصرفاته التي من المفروض أن لا تخالف القانون لأّن القوانين هنالك هي التي تسود. علما بان المجالس النيابية المنتخبة مثلاً في الولاياتالمتحدةالأمريكية يوجد بها حوال 70% من عضويتها من دارسي القانون. وهذا تطوراً ديمقراطي طبيعى لأن تلك المؤسسات مناط بها إصدار أو تعديل أو إضافة تشريعات وقوانين ملزمة ومقيدة لحريات الأخريين.ومن باب أولى أن يسود فيه التخصص القانوني . فما تنادى به حضرة الإمام من بديل ديمقراطي فهو بلا شك أفضل بكثير من إي خيار أخر قد يقودنا إلي نفق مظلم أو حتى إلي " صوملة أخرى" ولكنك قد تتفق معنا بان هذه المجموعات الحزبية التسعينية لا يمكن أن تمثل أحزاباً تنظيميةً وفقاً للمعايير السائدة في العالم الأول. يبدوا إن الجيش (أو القوات المسلحة ) في بلدنا يمثل منظومة إدارية وتنظيمية أكثر تطوراً من أحزابنا الحالية من حيث الأنماط الإدارية وسيادة قوانينهم الخاصة بهم وعدالتها وتقبلهم لها بصورة تلقائية. لذلك نجد الجيش قد نجح نوعاً ما فيما أخفقت أحزابنا (المجتمعية) السياسية في الفترات الديمقراطية الحزبية نتيجة لتواضعنا في فهم وممارسة الديمقراطية وفقاً للمنظومة الإدارية البيروقراطية كما أراد لها مخترعها (ماكس ويبر). لذلك لابد للأحزاب مراجعة تركيبتها التنظيمية حتي تحذوا حذو القوات النظامية من حيث الانضباط. ألم يحن الأوان لتغير النظر في مفاهيمنا الديمقراطية؟ فلا يعقل بعد مضى ما يقارب الستين عاما من الاستقلال ما زلنا نحبو نحو تطبيق الديمقراطية كالعالم الأول. فتاريخنا السياسي يكاد يكون مكرر وهو عبارة عن لعبة كراسي. ووسائلنا للوصول إليه عبارة عن استهداف من يتبوؤه أيَّاً كان. وعندما يحدث أي تغيير نتهم الذى فقده بالفساد الادارى أوالمالي ويتم حبسه أو محاكمته ثم يفرج عنه ليأخذ دوره في لعبة الكراسي . حضرنا العديد من ندوات أحزاب المعارضة في أماكن وأزمان مختلفة وهى تكاد تكون واحدة. وقد تكون نتيجة الفهم المجمتعى المبني على الانتقاد بدلاً عن النقد الموضوعي الذى يبين المحاسن والمسأوى ويتحدث عن البديل الافضل بنفس المنهج الموضوعي والمبني على المبادئ الديمقراطية والمتطلبات الواقعية. فمثلاً كثر الحديث في تلك الندوات عن مبدأ حيادية المؤسسات الحكومية أو الخدمة المدنية عموما ، رغم إن الحياد هنا يعنى الحيادية في تطبيق القوانين بحيث تكون عادلة وشفافة وفق أسس ديمقراطية. فلا نتوقع أن يكون الموظف في الخدمة المدنية في دول العالم الأول من دون إي انتماء حزبي لأنه حق من حقوق المواطنة. ولكن يطبق مبدأ المعاملة أو الخدمة المناط به تقديمها وفقا للأسس الموضوعية العادلة وليس وفق ميوله السياسي أو الديني أو العرقي. إما لدينا هنا مازال المجتمع يطبل للمحاباة والمحسوبية وفق الميول السياسية أو الدينية أو العرقية . فنوع هذا الجدل يكون من الأفضل أن يكون في وضع تصور متكامل يحد من تلك الظواهر السالبة بواسطة إنزال قوانين رادعة لمحاربته. فبدلاً من توجيه انتقاداتنا لتفشى القبلية نتوقع أن يتطور الحديث السياسي في الندوات عن ما هو البديل وكيف يمكن اجتثاثها أو منعها عبر القوانين أو التربية الوطنية أو المناهج الدراسية أو غيرها. ثم الحديث عن ذهاب هذا النظام فقط كغاية المطلوب دون الأخذ بالمئآلات اللاحقة فيظل هدفاً مبتوراً لا يقود إلي إصلاحٍ أو بديل ديمقراطي حقيقي كما أشرت عن وعي ديمقراطي متقدم. فشواهد التاريخ الحديث كلها تفضي إلي إن اى نظام سوف يذهب آجلاً أم عاجلاً هذه هي مشيئة الله.... حيث من عاش ألفاً أو ألفين فلابد للقبر ذاهب.... كما قال الشاعر . ولكن كيف لتسعين حزباً أن يحكموا السودان بكل التناقضات التي فيهم... فالمثل السوداني يقول (ريّسين) فقط يغرقوا المركب فما بالكم بتسعين ريساً. مما لا شك فيه إن السيد / الصادق المهدي من الزعماء المفكرين والمثقفين وله مكتبة علمية زاخرة وعامرة بكل الكتب في معظم التخصصات وهى في كبرها لا يوجد مثيلاً لها حتى في معظم الجامعات السودانية وهى للعلم متاحة لكل من أراد أن ينهل منها . وبالطبع قراءها هو كلها كما أخبرنا من قبل أمنائها. ويوجد فيها الكثير من كتب العلوم السياسية. فالواقع إن السياسة نفسها صارت علما حديثا وليست " طق حنك " أو مهارات لغوية ذات شحنات عاطفية يدغدغ بها مشاعر الآخرين كما يفعل الكثير من سادتنا السياسين في ندواتهم السياسية. لذلك يستوجب علينا عقد الكثير من البحوث العلمية الجادة للتفاكر في أمر الديمقراطية وتطوير المفاهيم المجتمعية نحوها خصوصا في ظل تحديثات السمات الرعوية بظلال ثقافتها الماثلة في السودان. وكذلك لابد من عقد مؤتمرات علمية من علماء محايدين " لا علماء السلطان" للتفاكر حول المستقبل الديمقراطي أو حتى الاقتصادي للسودان. وما نعنيه بالحيادية أن يسود الموضوعية العلمية والبحثية المطلوبة بحيث تٌبين المحاسن والمسأوى لتاريخ السودان السياسي أو الاقتصادي الحديث ليضئ لنا المستقبل. فليست كل تجاربنا السابقة فاشلة تماماً ولكن بها أوجه قصور لابد من دراستها وتجنبها مستقبلا. فسلام لكم في تضحيتكم كثمن لزعامتكم وسلاماً عليكم كأحد المفكرين الذين نتمنى أن ينهل السودان من فيضهم. سيد/ الصادق مازالت الديمقراطية هنا "بمشطوها بقملها" وعلينا جميعا أن ننظفه . وبالطبع لابد لنا من أن نفعل ما فعله الآخرون في العالم الأول. علينا أن نبدأ بتغيير الثقافة المجتمعية بتصحيح المفاهيم الديمقراطية وأن نبدأ بتدريسها من مرحلة الحضانة (الروضة) إلي المراحل الجامعية كمادة مهمة. وعلينا وعليك أنت كأمام للديمقراطية المساهمة الفكرية في وضع كتب مثل "كيف تصبح ديمقراطي " مع محاولة تطبيقه عملياً عبر استحداث البرلمان المدرسي للطلاب و مبدأ اختيار (الألفة) وغيرها من الممارسات العلمية التطبيقية. وهذا بلا شك قد يستغرق وقتاً كما هو موضوع "سليمة " ولكن ..."القحة ولاصمة الخشم " ومازال زماننا هذا ليس بزمانها ولكن الديمقراطية الصحيحة بلا شك راجحة. ولا ننسى سقراط الذي قتلته ديمقراطيته. د. عبد الرحمن السلمابي [email protected]