عند ابواب المساجد، علي الاتوستوب، وانت تفتح باب سيارتك تهم بالتوجه للعمل، علي طول شارع النيل، عبر الازقة الضيقة والواسعة، في الحدائق العامة، بالقرب من ابواب المدارس، والمستشفيات، حذاء المطاعم الفخمة والبائسة، في الاماكن القفرة والمكتظة، داخل الباصات السياحية والشعبية، بالقرب من ستات الشاي، في الشوارع الملتوية والمستقيمة والمتعرجة، وانت خارج او داخل لبيتك، بجوار بائعي كروت شحن الموبايلات، ارتال وجيوش وطوابير من المتسولين يحملون بقجة اكياس علي رؤوسهم ولسان حالهم يلعن سلسفيل الطقس الحار والبشر الذين قست قلوبهم، يقفون قبالتك يسالونك وبهمهمات (الله كريم) (انا جيعان اديني أي حاجة عليك الله). لم تعد الخرطوم عاصمة للتسول فحسب، بل تحولت الي عاصمة صانعة للتسول، وانت تمني النفس برشفة شاي في مكان عام، يقف امامك شاب ويعطيك ورقة علي اساس انه من ذوي الاحتياجات الخاصة مصاب بالصمم، علي ان تجود له بمبلغ من المال، فتيات يمارسن التسول في الوقت الذي يمكنهن ان يعملن في مهن شريفة، وشباب أقوياء يمدون أياديهم بلا استحياء، كرنفال التسول وجيوش المتسولين ليس كلهم سودانيين، فهناك جنسيات افريقية اخري تمارس المهنة واسيويين كما في شارع النيل مثلا، لكن اللافت في المشهد السوريالي هو انتساب بعض الاسر التي تنتمي الي قبائل من وسط السودان عرفت بانها قبائل عربية قحة!! صبية لم تبلغ من العمر خمسة سنوات قالت ان بعض المتسولات يقمن بتاجير اطفال من اسر فقيرة متسولة كمادة للتسول بعشرة جنيهات في اليوم، فكلما كانت المتسولة تحمل طفلا كلما كان الايراد اعلي والعكس. بالقرب من موقف جاكسون قال لي متسول ثلاثيني فقد احدي يديه، بان فقدان احدي الاطراف او كل الاطراف لم يعد كافيا لجذب عطف الناس للتصدق، لان ضحايا الحرب المقطعين والممزقين اصبحوا كثر يمارسون التسول، وان الناس قست قلوبهم (ومافي رحمة) وقال بانه يفكر في ترك صناعة التسول والاتجاه الي احتراف صناعة رتق الاحذية. بعض المتسولات وجدن في صناعة التسول بزنس رائج فطفقن باستجار غرفة في احدي الاحياء الراقية ودوامهن يبدا من العاشرة صباحا حتي الثالثة ظهرة ومن السادسة بعد الظهر وحتي الواحدة صباحا. في ظل ازدياد طوفان المتسولين بالعاصمة المثلثة، اصبحت البلاد عامة والعاصمة خاصة مؤهلة تماما لتحتل لقب عاصمة المتسولين وسط العواصم الافريقية والعربية، واصبح المشهد كله علي بعضه يشيء بان البلاد وصلت مرحلة عدم السيطرة علي المظهر العام، خصوصا وان بعض المتسولين من سكان العاصمة ومن ابناء ما يعرف بالسودان النيلي. لن نغوص كثيرا في اسباب التسول هذه، فبالدرجة الاولي الحروب العبثية تشكل العنوان الابرز لهذه المطحنة الاجتماعية، ولم نري او نسمع انيا بان هناك جهات رسمية اتخذت موقفا حاسم لمعالجة اسباب الظاهرة التي تحولت بحق وحقيق الي كابوس، مزعج للوافدين من الخارج ناهيك من اهل البلاد. ايضا تكدس المال والثروة في يد اسر بعينها كيفما اتفق، من غير وازع او رادع او ضمير ادت الي خلق فجوة مهولة بين طبقات المجتمع السوداني علي المستوي الاقتصادي والاجتماعي. لكن ايضا نقول بان سكان العاصمة السودانية الكالحة الغباش، ربما سعداء حتي الان لان هؤلاء المتسولون يتسولون لقمة عيشهم ب(اخوي واخوك)، ونتمني ان لا ياتي يوم يتوسل هؤلاء المتسولين الكلاشنكوف والسواطير كوسيلة للتسول، واخذ اموال الناس بالقوة ومنطق الدم. [email protected]