تداعيات دائماً ما كنت اتساءل: ترى هل كان من الممكن ان اكون انا هو انا بصفتي ممارساً لفنون الدراما، لو لم تكن هناك في كادوقلي في قلب جبال النوبة دار للسينما؟، استطيع ان اجزم ان اقداري كانت قد إختلفت عما عليه الآن لولا ذلك السحر، ذلك العشق لتلك العوالم التي نجدها في السينما. عانقت خطواتي في الستينيات – نهاياتها - عوالم السينما، تعلقت بها الى حد الهوس، خلقت بيني وبين والدي جفوة ومشاكل لا حصر لها، تحملت من اجل ذلك العشق الكثير من الضرب بمختلف انواعه، تعلمت اساليب الهروب من المدرسة خاصة في حصص المذاكرة بالأمسيات، تميزت عن اقراني بفضل تلك العوالم بمقدراتي في الحكي وقدرتي على تقليد الممثلين؛ عوالم و فضاءات ، كنا نشاهد مختلف الأفلام، عربية، انجليزية، ايطالية، هندية.. عرفنا اسماء النجوم من ممثلين وممثلات، تتوسع منا المدارك، وتتعمق فينا الخيالات، وتقودنا الدهشة بتلك العوالم الى اولى خطوات المعرفة ببلاد لم نزرها، بتلك القيم المثلى التي هي محور الصراع الدرامي في الفيلم السينمائي وخاصة الأفلام الهندية. انها طفولة غنية تلك التي كنا نعيشها، حيث هناك، حيث تقع كادوقلي في وسط جبال ، وتزهو بنفسها من حيث علاقتها بالمدنية، والفضل في هذا الزهو الذي تتمتع به هو هذه الدار التي هي (سينما كادوقلي). تقع هذه الدار جنوب السوق (البره)، وبزاوية مائلة يقع محلج اقطان كادوقلي، حيث تتجمع وتوزن اقطان جبال النوبة؛ القطن قصير التيلة. ان موسم (الميزان) يعتبر صحوة نشاط داخل تلك المدينة الصغيرة. شرق السينما يمتد ميدان واسع كان وقتها موقفاً للشاحنات واللواري التي يكتظ بها الميدان إبان موسم (الميزان)، وبعدها تمتد الأحياء السكنية: (العصاصير)، (حجر المك)، و(الفقراء).. وغرب السينما تمتد تلك الأحياء القريبة والبعيدة: (السوق)، (الموظفين)، (الملكية)، (الرديف)، و(البان جديد)، وجنوبها تمتد احياء (كليمو)، (ام بطاح)، و(السمه). المقترب من السينما يلاحظ لافتة كبيرة تتحلق حولها اللمبات الملونة التي كانت بالنسبة لنا تشكل نوعا من الإبهار لا يوصف، اللافتة مكتوب عليها باللون الأبيض على خلفية سوداء (سينما كادوقلي لصاحبها عمر الخليفة تأسست العام 1956م). اي فعل ذلك الذي صنعه (عمر الخليفة) كي نقترب من المدنية، وكي نرى تلك العوالم المبهرة؟، من اين خطرت له هذه الفكرة؟، لا استطيع ان اقول سوى ان هذا الفعل فعل حضاري لا يستهان به، برغم تلك النوايا التجارية والتي هي من الطبيعي ان تكون وراء هذا المشروع؛ مشروع السينما. (عمر الخليفة) من اولئك (الجعليين) الذي ادمنوا الترحال والهجرة الى حيث تذهب بهم الأرزاق، انه واحد من اولئك (الجلابة) -كما يقال عنهم- قادته اقداره وأرزاقه الى حيث جبال النوبة، لتلك المنطقة التي تعودت ان تسلب روح اولئك القادمين من الشمال، فلا مفر لهم الا البقاء فيها، فامتزجوا بناسها وصارت لهم اوطانا لا يمكن التحلي عنها. هكذا قام (عمر الخليفة) بفعل ذلك الفعل المتميز عن بقية اولئك التجار، ان تتصل مدينة صغيرة مثل (كادوقلي) بالعالم وتختلط احاديث رواد السينما عن اسماعيل يس، جون واين، اشا باريخ، محمود المليجي، كيرك دوغلاس، دوليب كومار، الالات شويا، جاك بلانس.. وتتشابه جبال النوبة مع تلك الجبال التي يطارد فيها رعاة البقر بعضهم البعض، ويجزم البعض ان الخضرة في (كشمير) لا تقل عنها خضرة جبال (كادوقلي) في الخريف.. هكذا تتلون العوالم وتتشكل، تتنوع الأغنيات وتختلف، ونعرف ان الغناء انواع وأجناس، وأن الرقص ميزة متأصلة في كل شعوب العالم، ترى من يعرف قيمة ما فعله (عمر الخليفة) ذلك التاجر الاستثنائي في تلك المناطق؟. انهم يعرفون قيمة هذا الفعل. انهم يعرفون ويقدرون هذا الفعل، هم سكان تلك المنطقة، لذلك حين يكون الغناء بمثابة تمجيد لتلك الأفعال التي عادة ما تقترب من معنى البطولة او اي فعل نبيل آخر، ولأن ذلك الفعل اعتبر من نقاط التحول في المنطقة، دخل ذلك الفعل في نسيج ذاكرة اهالي المنطقة، تداخل في وجدانهم، لذلك كان الغناء بعظمة ذلك الفعل، بمثابة رد جميل لذلك الرجل الذي صنع هذا الفعل - إنشاء دار سينما - هكذا اصبح اولئك الراقصون الذين يرقصون رقصة (الكمبلا) يتغنون بعظمة هذا الفعل، هكذا كان ان خرجت اصوات شباب وشابات ورجال ونساء وأطفال (ميري بره) و(ميري جوه) و(كحليات) و(ابو سنون) تردد بكل عذوبة ذلك الغناء المصاحب لرقصة (الكمبلا)، يرددون تلك الأغنية التي اخذت شهرة واسعة: (عمر خليفة سوا سينما) هي اغنية بلغة من لغات جبال النوبة المتعددة، لا تتبين منها سوى هذا المطلع الذي يظهر فيه اسم (عمر خليفة) وكلمة (سينما)، ويكون بذلك (عمر الخليفة) قد دخل في ذلك الوجدان النقي، والدليل على اشتهار هذه الأغنية انه لما دخلت رقصة (الكمبلا) من ضمن برنامج رقصات فرقة الفنون الشعبية، صارت (الكمبلا) ترقص مستصحبة تلك الأغنية. (عمر خليفة سوا سينما) وكنت انا المتعلق بأشجاني حول تلك المنطقة، كلما اسمع هذه الأغنية وأشاهد فرقة الفنون الشعبية وهي ترقص (الكمبلا) احس بأن التواصل الثقافي هذا الذي يمثله انتقال هذه الأغنية مع الرقصة من جبال النوبة كي تصبح نموذجاً تحتفي به فرقتنا القومية للفنون الشعبية، احس بأن التواصل الثقافي ميزة لها تلك القدرة على توحيد شعوب السودان. في ذلك اليوم الذي تم فيه افتتاح المسرح القومي في العام 1994م، ان الذين حولوا المسرح القومي الى خرابات هم نفس الذين احتفلوا بافتتاحه وسط ضجة من الادعاءات والخطب الرنانة، في ذلك اليوم قدمت فرقة الفنون الشعبية وصلة من ضمن برنامج ذلك الافتتاح، قدمت الفرقة من ضمن ما قدمت رقصة (الكمبلا) وبدلاً من ان يغني الراقصون: (عمر خليفة سوا سينما) بدلاً عن ذلك غنوا (عمر بشير سوا سينما) هكذا غنوا، وكنت وحدي بين الحضور الذي احس بهذا التحريف الغريب، كنت وحدي ذلك الشاهد وتلك الضحية. وقتها احسست بغبن حقيقي: لماذا يا ترى زيفت تلك الأغنية العذبة التي حكيت عن كيف تم التغني بها؟، هي اغنية ترمز الى ذلك التواصل الثقافي، الى ذلك العمق الإنساني، الى كل تاريخ فعل مؤثر وله القدرة على صنع التحولات. وقتها خرجت من المسرح القومي ويقود الحزن خطواتي وأحاول ان اجرب الخجل من كل ذلك الذي تم امامي والمعتدي على ذاكراتي، انا لا اؤمن بالتفسير الميتافيزيقي للأحداث ولكن ما حدث فعلاً انه بعد يومين من ذلك الفعل التحريفي داخل نسيج اغنية رقصة (الكمبلا) جاءني من (كادوقلي) من يخبرني ان العم (عمر الخليفة) قد رحل عن هذه الدنيا، ولكن سيبقى اسمه باقياً في كل الأصوات التي تغني وترقص (الكمبلا) هناك في جبال النوبة. (عمر خليفة سوا سينما).