امتد الزقاق طويلا أمام ناظريه تحت أضواء الشفق الناعسة . صوت عصاه يتردد فى صمت المكان بإيقاع يحاكى نبضات قلب عاشق فاجأته معشوقته بزيارة بعد غياب . طفق يتأمل العبارات المكتوبة علي حائط الزقاق الأيمن . بعضها نحتت بفحم قديم : " نعم لحزب البعث العربى " . بعضها وشم بطبشور أبيض غليظ : " أحب سعاد " . بينما بعضها رسم بلون فاخر : " المؤتمر الوطنى طريقكم للنماء " . ثمة عبارات غزلية مبتذلة أخرى تتناثر هنا و هناك . ظلت عيناه تنزلقان كحصانين على سطح الجدار الخشن حتى استقرتا على رسوم ما . تأملها بحنو فإذا بها تتشابك ، ثم تخرج لها أيدى و أذرعة ، ثم تتحول إلى خريطة واضحة المعالم ما لبثت أن تناسلت منها عشرات الخرائط الصغيرة . هتف فى وجع " مليون حبابك يا صديقى " . توقف أمام الجدار ، ثم مد أصابعه المرتجفة و طفق يتحسس حواف الخريطة الكبرى في حنين والدة عمياء تتحسس وجه ابنها الوحيد العائد من غربة طويلة . جلس داخل خيمة الصمت لدقائق ثم شق طريقه إلى بيته في آخر الزقاق و هو يثرثر مع صديقه الدائم : عصاه . .............................. في المساء غفا قليلا . رأى في منامه صديقه " دينق" يمضى فى الزقاق – متمايلا - و عيناه تبرقان فى نشوة . انعكاس قامته الطويلة السمراء يتمدد على الجدران فيبدو عملاقا . خطاه تزغرد فى نشوة و هو يرضع سيجارة بنهم عظيم . رآه يقف قرب الجدار فى صمت ، و يفرد ذراعيه كشراع ملأته نسائم البحر ، ثم يجلس على الرمال مواجها الجدار و هو يمسك بطبشورة بيضاء ليبدأ في رسم خريطته كعادته كلما حل المساء . أيقظته صغيرته " وفاق" بصوتها الهامس . ابتسم فى وجهها ببشاشة . ثم نظر إلى ارض الغرفة فرأى جريدة قديمة عليها صورة جنرال عسكرى لاتينى يقود قطيعا من النمور أمامه . أشاح عن الصورة ببغض ثم تحسس رجله الخشبية في إعياء و في ذهنه يدوى صوت ماكينة لعينة .صوت "مصطفى سيد احمد " يتسلل عبر كوة راديو عتيق بقربه صادحا " غابة الأبنوس عيونك " . شمخ فى ناظرى خياله جسد رجل عارى الصدر يتدفق العرق بغزارة منه . حشا فمه بحفنة من "تمباك" رخيص ثم اخذ يطالع فى إحدى صحف مدينته الصفراء . " الأخبار المعتادة " , همهم فى ضجر قبل أن يردف " قدر هذه البلاد أن تظل مسجونة فى دائرة الصراع إلى الآبد " . هبت نسمة أطارت "العراقي" عن فخذه فبان فيه وشم قديم . تحسسه فى شجن ثم هتف فى حنين " دينق " . أحس حينها بيد من حديد تعتصر قلبه في قسوة . ثم ما لبثت سحائب الذكريات أن بدأت تتراكم نصب عينيه . قبل سنوات عديدة كان يعمل فى مصنع ما . و ذات نهار بئيس اجتثت إحدى الآلات رجله. كان وقتها ممسكا بجوال ذرة يهم أن يصبه فى الحوض الحديدي الكبير عندما تلقفت الآلة رجلة كحوت عظيم يبتلع بقرة على الشاطئ. هكذا فجأة انزلقت رجله إليها و فى نصف ثانية اختفت . وفى نفس اللحظة أحس بيد سمراء تشده إلى الوراء . نظر إلى رجله فرأى نافورة من دماء ترشح منها فسقط مغشيا عليه. أخبروه – و هو مسجى على سرير فى مستشفى ما – أن "دينق " – السائق الجنوبى – قد أنقذه من الموت. و من يومها لم يفترقا . و حتى عندما استلم تعويضا من المصنع و ابتنى لنفسه كشكا أمام بيته ، طلب من " دينق" أن يضع " طبليته " الخضراء أمام الكشك ليبيع السجائر و الأقلام و بضعة أشياء أخرى ، غير عابئ بفكرة المنافسة أصلا. و الغريب أن كرتونة " دينق" كانت – مثلها مثل جداره الأثير- ترتسم عليها نفس الخريطة البيضاء !! كانا يلتقيان كل مساء . و حالما يفرغان من البيع يدلفان إلى المطعم القريب لتناول وجبة العشاء. و حينما كانت الايدى القمحية و السمراء تلتقي فوق صحن الفول ، كانت تواريخ من احن قديمة تركض إلى سراديب نسيان عميقة . بل إن العلاقة بينهما امتدت إلى الأسرتين . و حينما كان يذهب إلى بيت " دينق" مساء ، كان " مجوك "- والد " دينق" – يحضر إليه و يسامره فى ود لا متكلف . يحدثه عن طقوس قبائل الدينكا المتعلقة بالحصاد و الزواج . و لطالما شحذت خياله تلك الأقاصيص العارمة التفاصيل . كان يجلسان لساعات ، ثم ما يلبث العم " جون " أن يستأذنهما بعد أن يأمر إحدى بناته بإحضار الإبريق و السجادة للزائر العزيز ليؤدى صلاة العشاء ! .................................. ما بال صديقه يبدو ساهما هذه الأيام ؟ هكذا سأل نفسه و هو يمر على الملحمة المجاورة . لفت انتباهه صوت أنين مكتوم وحين أدار عينيه فى اتجاهه رأى رجلا يذبح خروفا بقسوة متناهية ، ثم يفصل رأسه عن جسده . ارتعش و هو يحمل كيس اللحم و يغادر إلى بيته . ذاك اليوم جاءت " ميرى" – ابنة " دينق " الكبرى – إلى بيته و هى تنتحب . ضمها إليه في أبوة جارفة . سألها عن السبب فأعطته وريقة فتحها بأصابع مرتعشة . وجد توكيلا له ببيع منزل " دينق " الكائن فى " الحاج يوسف " فاغروقت عيناه فى أسى . بعد شهر فتحت الخرطوم عينيها على مشهد استثنائى . اللوارى اكتظت بالجنوبيين و هم فى طريق عودتهم إلى وطن جديد . آلاف القطع من الأثاثات و قطع الملابس تناثرت في فوضى عارمة . ثمة حيوانات حشرت فى اللوارى قسرا وهى تتأمل المشهد بعيون كاسفة. مئات البيوت التى احتضنت القامات السمراء فى العاصمة أغلقت أبوابها ذاك اليوم ، بينما أفردت " جوبا " فى الجانب الآخر من الوطن ذراعيها و عيناها تبرقان فى حنين و الم معا . تعانق و " دينق " عناقا حميما . ضمه إليه كما يضم النيل الأزرق أخاه الأبيض . سالت الدموع السمراء و القمحية على سفوح الأذرع المهومة فى عناق . و دون أن يدرى وجد نفسه يهمس فى أذن صديقه " لا تخشى شيئا على الخريطة ". ................... مهدى يوسف ابراهيم عيسى الخرطوم [email protected]