اسمه "حسن ". و ذات زمان قديم كان ينفجر ضاحكا فى وجه محدثه دونما سبب معلوم . تحضر له بائعة الشاى كوبا فيقهقه فرحا و يجاملها بقوله " شكرا يا خالة . دا شاى " ابسلوتلى " طاعم " . يقرر رئيسه فى العمل أن يكافئه بمرتب يومين فيقبله على صلعته الجرداء و يهتف به " انت راجل ابسلوتيلى جميل " . و لأنه يستخدم كلمة " ابسلوتلى " الانجليزية فى كل حديث فقد أطلق عليه زملاؤه فى الوزارة اسم " حسن ابسلوتلى " و ربما ناداه البعض فقط ب " ابسلوتلي " . تدلف إلى المؤسسة فتسأل عن " حسن الحاج على " فلا يعيرك احد التفاتا . حتى إذا همست همسا بكلمة " ابسلوتلى " ، أرخت الجدران آذانها انتباها و هشت لك السلالم الخشبية فى تلك المؤسسة العتيقة . و ربما قادتك إليه ضحكته المجلجلة التى ظل يطلقها فى وجه الزمن الكئيب قديما . تدلف إلى المكتب فتجده غارقا وراء حزمة أوراق لا تنفد بينما على كرسى مجاور يجلس صديقه الأثير : عوده الخشبى المزخرف كأيدي عروس . حياته كلها غريبة . ذات يوم حكى لنا ضاحكا ( فهو لا يعرف يتحدث دونما ضحك ) قصة مدهشة عن قدومه إلى المدينة طفلا . قال لنا إن هجرته تسبب فيها " حمار ". ضحكنا – نحن زملائه الأثيرين فى المكتب بما فينا زوجته " زينب " . قال لنا إن أباه ولد و ترعرع فى كنف الفاقة فى تلك القرية القصية و حين بلغ سن الشباب عمل جزارا فى تلك المدينة المجاورة . كان يتنكب مخلاته و سكينه فى كل صباح و يقف على الطريق الترابى " الردمية " خارج القرية فى انتظار أن ينقله محسن ما ، و ربما حشر نفسه بين جوالات الذرة و سيقان الدواجن فى لورى قديم ، حتى اذا بلغ المدينة بشق الأنفس ، سار بضعة مئات من الأمتار ريثما يبلغ الساحة التى تعج بالخراف . و هناك " يتتفن " على الرمال المعجونة بروث البهائم و يفرش بقايا جوال بلاستيكى على الأرض ثم يضع عليه سكينه المختلط بريقها بدمائه و دماء خراف كم انتهت حيواتها على حدود الشفرة التى لا ترحم . و ما كان ليفعل شيئا سوى ممارسة الانتظار. كان يتحول بكليته الى عينين تجوسان هنا و هناك بحثا عن زبون ما ، وتحديدا أثرياء المدينة . كان يعرفهم جيدا بسياراتهم الفارهة فهم لا يطأون الثرى كبقية خلق الله . يوقف أحدهم سيارته قربه و يشير إلى خروف ما فيهرع " الحاج على " إلي وليمة المستقبل التى لا تزال تسير على قدمين . يرفع شفة الخروف العليا ليقنع الشارى بأنه " خروف بن خروف " حتى إذا اقتنع " ذو الكرش " العظيمة بذلك ، قام هو بحمل الخروف إلى السيارة بين ذراعيه . و قد يقوم بذبحه و سلخه و رفعه إلى السيارة أيضا . حكى لنا " حسن " أن أباه أرهق من الوقوف يوميا خارج القرية فقرر أن يشترى حمارا ليساعده فى رحلة الرهق المسماة الحياة . و بالفعل قام بشراء واحد أرقط من مزارع جار على أن يقوم بدفع ثمنه على أربعة شهور لا تزيد عشرة ايام . كان " الحاج على " ينتظر محصولا وفيرا ذاك العام ليسدد ما عليه من التزام ( حمارى ) . لكن ابنه " حسن " مرض مرضا شديدا مما أعجز الأب عن الوفاء بدينه ، فضيق المزارع عليه الخناق يوما و شتمه أمام زملائه فى السوق فما كان من الأب إلا أن بقر بطن الأخير بسكينه لينفق بعدها فى السجن سنين عددا و لتجد الأم نفسها وحيدة فى عالم اشد شراسة من أضراس سمكة قرش جائعة .فنصحها قريب بالذهاب إلى المدينة لتبدأ قصة حياة " حسن " الغريبة . فى المدينة التحقت أمه بمدرسة مجاورة لبيتها في الأطراف القصية . كانت تقوم بنظافة حجرات الدراسة و فى وقت الفسحة تبيع السندوتشات للتلاميذ . اما في بقية ما تبقى من اليوم فتنظف بيوت بعض الميسرين . يترعرع كل طفل فى كنف بيت واحد . لكن " حسنا " لم يكن كذلك . فقد عرف عنه أن جميع نسوة الحى كن أمهاته و أن جميع بيوت الحى كانت بيوته . كان يتناول الإفطار فى بيت و الغداء فى آخر و العشاء فى ثالث و قد يقضى ليلته فى رابع . لم تكن أمه تقلق عليه كشأن بقية الأمهات مع أطفالهن . فقد كان يغمرها إحساس غريب بأن السماء ترعى ابنها و تهيئه لعمل عظيم ما فى المستقبل . أدخل " حسن " المدرسة و نبغ فيها رغم ظروفه العسيرة . و حين التحق بالمرحلة الثانوية تعرف بخياط كان يعزف العود فى وقت فراغه . عشق " حسن " العود بسببه و بدأ فى تعلم العزف عليه و سرعان ما تمكن من ذلك . ثم بدأ فى كتابة أغنيات بنفسه . كان الجميع يعلمون برداءة صوته و أغنياته معا . لكن كل بيت كان يقام فيه فرح يصر أهله على أن يتغنى لهم "حسن". يأتي محتضنا عوده و كأنه يحتضن روحه . يجلس على كرسى عال أمام الجمع ، يسند رأسه على خشبة العود المزخرفة بحرص كبير ، ثم تبدأ أصابعه فى الرقص على الأوتار مولدة ألحانا غريبة كشخبطات الأطفال. يرفع رأسه فيرى جموع من فئات عمرية مختلفة . تبرق عيناه بابتسامة غريبة تشع نورا ، ثم تبدأ شفتاه فى الهمهمة . بعد دقائق تجد الساحة يعلوها غبار الأقدام المتراقصة. يختلط الرجال و النساء دون أن ينتبه أحدهم إلى فوارق الجنس. و قد يدلف إلى الساحة شيخ " أب شعر " بمسبحته التى تلتف حول رقبته كما تلتف أصابع البخيل على كيس النقود . هناك – فى إحدى ساحات أفراحه الغريبة - التقى " حسن " بزينب لأول مرة . كانت صبية حسناء يرغب أثرياء الحى فى الزواج بها . لكنها ظلت ترفضهم واحدا و راء الثانى . و كانت كلما أوشكت على قبول أحدهم يدق فى رأسها طبل غريب بأنه ثمة فارس ما سيأتى إليها على حصان أبيض . ذات يوم رأت " زينب " فى منامها الشيخ " أب شعر " يزفها إلى رجل رقيق الحال عظيم الروح . و ذاك المساء حين رأت " حسن " لأول مرة زغردت فى حبور عظيم فقد رأت فيه الشاب الذى عقد قرانه عليها فى منامها . و بالفعل تزوجته رغم أنف أبيها الاقطاعى البخيل . عرف " حسن " بصناعة الفرح أينما ذهب . يأتي مساء إلى دكان " ود خريبان " الشهير حيث يلتقى أفراد ذوى مشارب شتى . يتصايحون و يشتجرون و قد يسب بعضهم بعضا ، حتى إذا جلس " حسن " بينهم و بدأ فى قراءة أشعاره " الرديئة " انفجروا ضاحكين . و قد يقوم أحدهم معانقا أخاه ، معتذرا عما بدر منه من جفوة و غلظة . يدلف "حسن" إلى السوق فيتفق البائع و الشارى على السعر ، تمتلئ أكياس الفقراء بالفواكه و اللحوم ، و يتراقص الشاى حبورا فى أباريقه رغم جحيم النيران المتلوية تحته . لم يلتحق " حسن " بجامعة . لكنه قرأ ذات يوم إعلانا عن وظيفة فذهب دونما واسطة سوى ابتسامته الغريبة . و يذكر العاملون بتلك المؤسسة أن " حسنا " جاء فى يومه الأول حاملا " عوده " و بدأ العزف عليه قبل أن يتعرف على أسمائهم . بعد يومين أصبح " المدير " ( الذى كان مشهورا بغلظته و غروره ) يأتي إلى مكاتب مرؤوسيه ملاطفا إياهم . بل إنه أنشأ جمعية تعاونية لمساعدتهم ماليا . مضت الحياة بحسن عذبة سهلة حتى عين" كسار اب قرجة " مديرا جديدا للقسم فى تلك المؤسسة . و لا يزال الجميع يذكرون كيف دلف الي مكتبهم ذاك الصبح ، تتقدمه عصاه الطويلة و كرشه الممتلئة . كان " حسن " وقتها يوقع نغما جديدا على عوده . و دونما سابق إنذار صاح بحسن صيحة عظيمة طالبا منه الكف عن العبث و الالتفات الى العمل . رد حسن فى براءة بأنه لا عمل لديه ليؤديه وقتها فنظر إليه المدير الجديد نظرة استعلائية و أمر الجميع بالاجتماع الفورى . و هناك فى تلك الغرفة الضيقة كرس جل حديثه للحديث عن " حسن " و عوده و كأنهما المسئولان عن مصائب الكون . و بعد يومين طلب " حسن " إلى مكتبه حيث حدثه عن ضرورة التخلى عن عبثه – موسيقاه يعنى – و الالتفات إلى الجد . وقتها ذكر له " حسن " بغضب انه فنان و له أحلامه فلم يزد المدير ان أشاح بوجهه و لوح بيده فى استهتار و هو يهتف " بلا خيبة معاك " . ذاك الأسبوع حل المدير الجديد الجمعية التعاونية بحجة التقشف . ثم أمر بمصادرة السيارة التى كانت تقل العاملين الى بيتوهم بنفس الحجة . بعد يومين جاء زائرا فوجد حسنا لا يزال يحتفظ بعوده قربه فثار ثانية و اتهم حسنا بأنه مدع جهول . ذاك اليوم ، و لأول مرة ، قدم " حسن " الى المؤسسة بدون شقيقه العود . جلس متثاقلا و على غير العادة لم نسمع ضحكته الخضراء . لم يرتفع صوته مغردا بكلمة " ابسلوتلى " المميزة نهارئذ . خيم البؤس على المكتب العتيق . وحين جاءت " حاجة فاطمة " بائعة الشاى تمازحه لم يبادلها الضحكة و لم يعاكسها كما يفعل دائما . مرت أيام رتيبة أعقبها اجتماع آخر عقب ذلك تمخضب عن مزيد من القرارات العجفاء . بدأ الناس فى المؤسسة يتحدثون عن حسن ،عن ضحكته التى خبت و عن مزاحه الذى انطفأ . بعد شهر قدم المدير الى المكتب للمرة الألف تسبقه كرشه الضخمة و سمعته البغيضة . وكعادته بدأ فى ممارسة هوايته المفضلة فى استفزاز "حسن " . ما حدث بعد ذلك تحول الى قصة تناقلتها أفواه الجميع فى مختلف الاقسام ، و كل موظف يسردها على مسامع الآخرين بعد أن يضيف اليها شيئا من خياله . لم يسمع الناس وقتها من فم حسن سوى " يا ابن الكلب " . ذاك اليوم هرع الى المدير فى المستشفى من هرع . و زار حسنا فى بيته من زار . يقسم كل من شهد ماحدث ان قامة حسن استطالت وقتها حتى بلغت سقف المكتب . أما انا فقد لملمت شظايا العود عن الارض ثم يممت صوب قسم المالية لاستخراج مستحقات رجل كان يحترف إحيائنا بضحكته . ...... مهدى يوسف ابراهيم عيسى جدة مايو 2014 [email protected]