في كتابه التوثيقي الضخم خريف الفرح ذكر الصحفي العملاق الراحل طيب الله ثراه أستاذنا عبد الرحمن مختار صاحب إمتياز و رئيس تحرير جريدة الصحافة في عهدها الزاهر حينما كانت تقود الراي العام الى مدارج الوعي و تساهم في صنع قرارات ديواوين الحكم بنصح الوطنية التي لاغبار عليها .. وقبل ان تنحدر الى سفح الكلمة التي تجانب الحق وإن كان شمساً في رابعة النهار و تساند الباطل في أحلك ظلماته في هذا العهد ويتولاها من يزكون رأي الظلم ضد سلامة الوطن وكرامة مواطنيه ! ذكر استاذنا أن وفداً من كبار شيوخ بلادنا وأعيانها ذهب الى الفندق الكبير لمقابلة أحد باشوات مصر االمتنفذين وقتئذ والذي جاء بغرض محاولة إستمالة القادة السودانيين ناحية الإتحاد مع مصر بعد الإستقلال عن الحكم الثاني في ذلك الزمان من اوائل خمسينييات القرن الماضي ! إعتمر الشيوخ العمائم البيضاء كنوايا أهلها و تدثروا بالعباءات التي تنم عن وقار ومكانة أصحابها و حملوا عصيهم التي ترمز للهيبة ! ولكن الباشا دخل عليهم ببجامة النوم وهو ينتعل شبشب الحدوقة النسائي .. فسلم عليهم بتعالٍ واستخفاف وكان يستمع اليهم وهو يقلّم أضافره بألة تشغله أكثر مما كان يهتم بحديثهم ويرد عليهم بإقتضاب وكأنه يتعاطى مع خدم قصره ! فهم احد الشيوخ بضربه لولا أن منعه عن ذلك تمسك الجماعة بإكرام الضيف وإن أساء الآدب! ولو أن الذي جاء لمقابلة ذلك الباشا المتغطرس هو عسكري صف إنجليزي او موظف في مؤخرة سلم الخدمة المدنية الإستعمارية .. لتزين له بأبهى حله ووضع على راسه اغلى طرابيش خزانته ! بالمقابل ذكر استاذنا أنه حينما يذهب الى الجارة اثيوبيا في عهد مملكتها الآفلة .. كان يستقبله الإمبراطور هيلاسلاسي شخصيا دون الصحفيين القادمين من الدول الآخرى اياً كان صيت الصحيفة التي يمثلونها ..فيتبسط معه صاحب التاج العريق وفقاً لما يكنه من حب و حفظ الجميل لأهل السودان الذين ناصروه في اشد محن حكمه في مرحلة الإنقلاب عليه فأكرموا وفادته وأجزلوا له العطاء دون منٍ أو أذىٌ حتى إستعاد سلطته المنهوبة! وقال الأستاذ عبد الرحمن مختار إنه يكاد يكون الشخص الوحيد الذي أضحك العاهل المهيب باتساع الثغر و علو الصوت .. عندما كان متراجعاً بظهره وفقاً للتقليد الرتكولي الملكي الصارم الذي يقتضي الآ تُعطي ظهرك للملك وأنت تغادر مجلسه اياً كان مقامك .. فتكوم على الأرض متعثراً في أطراف عباءته التي علقت بمؤخرتي مركوبه .. ورغم الحرج الذي إنتابه لحظتها .. إلا أن مصدر فخره ان الإمبراطور كان معجبا بزينا السوداني ويعتبره مميزاً لشخصيتنا وليس مثار سخرية كما يفعل معنا بعض الجيران الذين يقارنون ما بين ثوبنا النسائي الذي نعتز به .. والملاية اللف في ريفهم الأصيل من قبيل الإستهزاء بشخصية من تتغطى بحشمتهما ! الأثيبيون بإجماعهم يعشقون كل ماهو سوداني .. ويطربهم لحننا وهم لا يفهمون لغتنا .. بينما الذين يتكلمونها يعتبرون شعرنا مجرد لكنه بوابي مصر من أهل النوبة الطيبين الذين يشرفنا الإتصاف بهم ونعجب لوقاحة من يعيروننا بهم و لايستيغون لحننا الذي يدور في ذات فلك الأغنية اليابانية والصينية بل والهندية التي تهز وجدان الحجر ويتراقص لنسمات نغماتها الزهر والشجر ! أنا أعشق الفن وأقدّر أهله حيثما كانوا بل وأكون سعيداً لو يحسبونني واحداً من قبيلتهم بإعتبار اني أتعاطى كتابة الشعر وربما لا أجيدها مثلما يتقنها الكثيرون .. اللهم أنني فقط اشبع تلك الهواية بجهد المقل وقدر المستطاع ! و أقول ان أهل الفن يجب ان يكون مقالهم مسموعا بتبجيل اًفي مقامات الوجدا ن الرحبة ..نعم ..وموطيء اقدامهم لا يدلف اليه الجهلة ومتحجري المشاعر بالقدم اليسرى وإنما يحط عليه المرهفون بأجنحة الطرب الملونة ..! وطالما أنهم يغسلون الروح من إجهاد الحياة بحلو النغم ورصين الكلم .. فإنهم يستحقون التكريم على كل المستويات حيثما حلوا وذهبوا .. ولكن ذلك يجب أن يكون في ندية المعاملة بالمثل .. وليس بأسلوب تعالي الطربوش الأجوف على تواضع شموخ العمامة ! جمعة سعيدة على الجميع . [email protected]