*(كنا صغاراً وكانت عصا الفكي في الكتّاب أطول من ألسنتنا جميعاً كانت عصاه لا تستهدف إلا رؤوسنا الخضراء الصغيرة كنا نستخدم الألواح ترساً لصد ضرباته الموجعة فتتألم الكلمات وتتساقط همزات القطع والوصل وحروف العلة والجر ... من يومها نشأت كلماتنا خائفة عرجاء..). .. مذ فتحت عيني للضوء، كان أبي يذهب إلي البحر، ومذ تعودت قدماي المشي أودع مقود الحمار في يدي، وحين كان يجمع الرمل ليعبيء الخرج الملتصق في ظهره، كان الحمار يقف كصخرة، وعندما كان يومىء بإ شارته المعتادة، كنت أقود الحمار إلي المكان الذي ننقل إليه رمل البحر. في الصباح، نخرج، أنا وأبي والحمار، وأثناء النهار يكون أبي إما عن يمين الحمار أو عن يساره وأنا ممسك بالمقود، دائما وجهه في وجهي وإذا تحرك الحمار يصرخ أبي: ثبّت الحمار جيداً أيها الغبي، وعند المساء نعود إلى البيت جوعى أنا والحمار وأبي وقبل أن يصل ويقابل أخي ذا اللحم الطري، ينادي أمي لتحضر القش والعدار الأخضر، يأكل الحمار ثم نأكل نحن وقبل أن ننتهي، يذكّر أمي إذا كان قد نسيت أن تضع الماء بجانب المربط وفي الصباح وقبل أن يغسل النوم من عينيه، يمر عليه، يمسح الغبار عن ظهره وبطنه ثم يكنس الروث من حواليه، وكنا ننظر إليه كأي فرد من الأسرة، بل أهم واحد فيها ليس لأنه المصدر الوحيد الذي يطعمها ويسقيها بل لأن أبي يهتم به أكثر من أي فرد فيها. كان أبي عاملاً حقيقياً مسكوناً بعشق العمل، في عينيه بعض احمرار من رذاذ الموج المالح، أذكر.. وجهاً مغسولاً بضوء رجولي فيه صلابة الرجال المنحوتة من عنق تاريخ قتال ضد الجوع وجسداً من كبرياء الشمس معجونة بألق البحر.. ذات مساء خريفي اتكأ على الحائط أخذ سفت تمباك، ثم بعد ذلك أشعل سيجارة وسحب نفساً عميقاً جعله يسعل سعالاً متقطعاً، رمى عينيه في الأفق الرمادي كانت السماء بلون التراب الأسود وكان البحر يرتفع في الأفق الذي يصل السماء والأوراق الخريفية التي تدفعها الريح نحو الأبواب لها رائحة تذكر الفقراء بالمؤن القليلة وتذكرهم بالحنان والقلق، انقبض وجه الرجل العتيق والتمع في سواد عينيه قلق مخيف، أشعل سيجارة أخرى، عبّ دخانها بعمق ثم نظر إليّ بعينين متعبتين وقال: غداً سيكون العمل شاقاً يا ولدي. في الصباح. كانت غمامة عالية، تشبه عجينة من رمل وتراب وكان ظلها يشوه شكل الأرض وكانت الريح الغربية الوافدة بجناحين كبيرين، تصفرّ وتلوّح للريح الساكنة التي تنسحب بهدوء لتدخل في سواد المدى والبحر الذي انسرق منه عمره فقد الإحساس بالزمن ونسي أن الليل في أواخر الخريف يسرق النهار، والنهار يسرق الشمس والشمس تسرق الهواء والهواء يسرق البحر والبحر يسرق الأرض والبواخر والأسماك ويحولها إلي هياكل منخورة في جوف الأرض، والدكنة التي كانت ترزح فوق رؤوسنا جعلتنا ننسى ألسنة طلائع الموج التي كانت تلحس أقدامنا وترسل الطعم إلى الماء المالح، كان والدي يقبض على ذراع الكوريك وكانت يدي ممسكة بمقود الحمار، وكان الحمار يقف كشجرة حين بدأ الموج يرتفع فوق أقدامنا ويلتفَّ حول السيقان وحين لا يستطيع شدَّها كان يسرق الرمل من تحت أقدامنا فتختل القامات ونعدلها لكن الحمار الذي أنهكه ثقل الرمل المبلل لم يستطيع أن يعدل وقفته فهبط مرغماً، ركله والدي بعنف، لكن الحمار المتعب لم يقو على تحريك جسده الغاطس بالماء المالح وقبل أن نزيح الحمل الرازح على ظهره، كان الليل قد سرق النهار ولف وجه الأرض بمئزر أسود وكانت مخالب الموج المذعورة موغلة بجسد الحمار كوحش بألف ناب، بدأت رأسي تجري وتدخل في التيه غاص أبي في جسد البحر وفي اليوم التالي كان عنقريبه* خالياً والعدار الأخضر الذي تجمعه والدتي من الحقول عند مربط الحمار ذابلاً، وكانت والدتي واقفة على فم البحر تنتحب، وكان موج البحر يرتاح على الرمل الناعم، وحين بدأ الوجه يسود من النسمات الصباحية الباردة، بدأت رائحة الجوع تتسرب إلى داخل البيت الضيق، وأنا الأكبر في أهلي، في دمي شجرة تكبر، تتطلع إلى فجر أحمر، ينبت من الأفق الشرق، أحلم بمدن زرق مفتوحة نوافذها على المدى الأبيض. جيداً أذكر، كيف اتصل دمي لأول مرة بوجع الذين يعجنون خبزَهُم بالعرق والدم. كانت ريحاً وبرداً ومطراً، حملت وجعي، صندوق ورنيش على كتفي خبأت فيه وجهي وصوتي، ورحت أركع أمام أحذية سود، وشواراع سود، وأوجه سود، وإني رأيت أمي في فم البحر تبكي، وكان البحر أفقاً حزيناً في أقاصيه الشمس ترتمي، وأنا أتكيء على وجع في دمي، أمد يدي، وحين يلامس القرش كفي، يهتز جسدي، أتصور وجه أمي، وجه أخي، وجه أختي، والدمع يجمد بالمقل الحمر، وحين تصورت أبي، يحمل كوريكاً ويضرب به مدَّ الرمل. نزعت جلدي، وزرعت رأسي في غابة الرؤوس الدائخة، وأذكر أني كسرت صندوق الورنيش، لملمت وجهي الذي كان وجهي وصوتي الذي كان صوتي، ثم دخلت إلى مطعم في الشارع الغربي، وكان في المطعم صالتان، صالة مفروشة بالضوء والشعر الأشقر، في جهة منها امرأة تدغدغ طفلاً، يضحك الطفل، تبتهج المرأة، وفي جهة أخرى فتى في عينيه وردة، في الوردة شمس، وفي الشمس دفء وفي الدفء يحلمان، يطيران كمهر بألفي جناح، وصالة مفروشة بالوجوه العارية ، والأعناق المحنية، في الوجوه تعب ورائحة لها طعم الماء المالح، عند طرف الصالة نافذة، خلف النافذة يجلس رجل يتكيء على لحية بيضاء تصل نصف الصدر، يتأمل اتساع الأفق وعمق البحر، اقتربت منه ثم انحنيت، وفي يدي كأس الشاي وحين رمى عينيه في وجهي، رأيت وجهاً عتيقاً قدَّ من زمن الصخر، في أعلى الوجه حاجبان كثيفان، منفرشان ومنحنيان، وفي الثانية ينزُّ وميض يغسل بركة محرورة، وفي أسفل الوجه برية، وفي البرية صخر ومغاور وكهوف، لها صمت المقابر، أحسست بدمي الذي كان قد هجر قلبي، يتدفق نهراً في جسدي، وان كأس الشاي يرقص على نبضي، وأن صوراً ممحوة من دفاتري تخرج، وتملأ أفقي، فكرت أني أحلم في سري، أو أني أهذي، لكن وجه الرجل مازال علقاً في وجهي، في العين المفقوءة، عربات أطفال يصرخون جوعاً، وفي العين المحرورة أمهات يفتحن لهم صدوراً بأثدية مقهورة، وأنا أنحني، وكأس الشاي يرتجف في يدي، فكرت أن أضع الشاي وأمشي، لكن يد الرجل كانت تشدُّ في كتفي. - لماذا تنحني يا ولدي...؟ - سيدي :هكذا علمني زمني . - لا... يا ولدي ... أعطني عينيك وخذ عيني لترى، أن الحب كان كوخاً صغيراً، ثم صار بيتاً كبيراً وامتد البيت فصار وطناً، وكبر الوطن، فصار العالم، وفي نبض هذا العالم يسكن، الشجر والزرع، التراب والتيراب والعشب، العشق والوجع، الغضب والفرح، الداء والدواء، وفي نبض هذا العالم أيضاً، المجد للقامات التي تموت واقفة.. .. يا ولدي. في تلك اللحظة أحسست أن زمناً جديداً ينفتح في زمني، وأن وجعاً قديماً ينضح من وجعي، وأنّ أبي ريح تفجر رئة البحر، ويخرج شامخاً كالجبل، فرفعت رأسي وقوّمت ظهري، رأيت وجوهاً تولد في كل وجه وجه أبي وعيوناً تعبر درب البحر، في كل عين عين أبي، وأكفاً تفجر كبد الصخر، في كل كف أصابع أبي، وأنا أقدم كأس الشاي إلى الرجل الذي رأيت نبض الشجر وخضرة العشب في لحيته البيضاء.... [email protected]