أقرب إلى القلب : (1) وقت أن كان مندوباً للبنان في الأممالمتحدة ، وضع د.شارل مالك (1906- 1987) تقريراً بعث بنسخٍ محدودة منه لاطلاع قيادة الدولة في لبنان، بتاريخ 5 أغسطس من عام 1949. تداول كبار لبنان ذلك التقرير السري، ولكنهم عمدوا على إبقائه بعيداً عن الإعلام، فلم يتح لصحافة لبنان على جرأتها المعروفة في اقتحام المخفيّ، أن تصل عيونها وأقلامها إليه. وصف صاحب صحيفة "النهار" اللبنانية، الراحل "غسان تويني"(1926-2012) في مقدمة لذلك التقرير، حين نُشر في كتيبٍ صدر عن دار "النهار" عام 2002 بعنوان "إسرائيل، أميركا والعرب تنبؤات من نصف قرن"، بأنه "وثيقة من أخطر وثائق الدبلوماسية العربية". في ذلك التقرير وضع "مالك" رؤيته المستقبلية، فكأنها تنبؤات لما سيقع في الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديداً، من تطورات وأحداث. (2) من بين خمسٍ وثلاثين قضية تناولها "شارل مالك"، نظر "تويني" في أهم ثلاث قضايا تناولها التقرير، أوجزها في نقاط وأوردها لك أدناه: 1. أنّ العهد اليهودي سيسود حتماً، إذا ظلّ العالم العربي على تأخره وتفككه.. بعد إنشاء دولة إسرائيل، ستحلّ " المرحلة التكميلية، التي تهدف الى استعمار و"استعباد العالم العربي بالفعل.." (ص 28 من تقرير مالك). . 2. في المفاضلة "بين المصلحة الإسرائيلية والمصلحة العربية، ستؤيد أمريكا المصلحة الاسرائيلية"، وأن في عصر التحالفات، فإن على الجامعة العربية أن تتحوّل إلى تكتل سياسي أو "حلف" (ص96 و97 من التقرير).. 3. لن يكون أمام اسرائيل من خيارٍ سوى اكتساح العالم العربي أو الانكسار. "مقضيّ على الصهيونية، وقد استقرت في وسط العالم العربي، أن تتغلب أو تغلب، أن تبقى بقاء السيطرة أو تفنى. أما السلام بينها وبين محيطها العربي، والتفاهم الصادق، فلا إمكان لقيامهما" (ص142 من التقرير. . ) لعلّ القاريء يستشف بيسر، كم هي خطيرة هذه السطور التي خطها "شارل مالك" في عام 1949، وجرح "النكبة" طرياً لم تمضِ عليه سوى بضعة شهور. كان الظنّ أن انكسار العرب في حرب 1948، هو انكسار طاريء، و أن الأمور ستعود إلى نصابها وإلى سيرتها الأولى. .! ذلك كان حلماً بعيد الوقوع. . (3) "شارل مالك". . هذا الذي رأى الشجر يمشي في الآفاق ، طرح تساؤلا ملحاً: ما العمل ؟ أجل.. ما العمل إزاء سيناريو أسود سيأخذ أحوال العرب إلى قيعان الفشل والتراجع..؟ يجيب "مالك" بأن المطلوب في العالم العربي إعلاء قيمة حرية الفكر، وأيضاً السعي " لتوحيد كلمة العرب وتجديد الجامعة العربية.." وأنّ على الدول العربية. . " أن تعطي وحدتها شكل الحلف، ولهذا أنا أدعو إلى خلق حلف عسكري واقتصادي، تتفاهم فيه الدول العربية في ما بينها" (ص96 و97 من التقرير). يمضي شارل مالك مذكّراً العرب أنهم إذا ما تباطأوا في إنشاء ذلك الحلف، فقد "تداهمهم الحوادث بحيث يعتبرون ليس كنواة، بل كهوامش في جسم النظام الدفاعي عن الشرق الأوسط" (ص 98 من التقرير). . أعجب لثاقب نظر هذا الرجل الذي نصح في عام 1949، بأن على "الجامعة العربية" أن تغيّر من حالها ومن طبيعتها، وهي مولود هشّ البنية، لم يبلغ عامين أو ثلاثة من عمره ! في تلكم السنوات توافق العالم "الأول" وقد خرج منتصراً في الحرب العالمية الثانية عام 1945، على ما يحقق الأمن والسلم الدوليين. فأنشأ قادته الكبار أحلافاً عسكرية واقتصادية ، سرعان ما تبعها تحوّل في طبيعة هذه التحالفات، فزاد ترابط بلدان تلك المنظومة في حلف شمال الأطلنطي: "الناتو"، ثم "السوق الأوروبية المشتركة". في المقابل نشأت المنظومة الاقتصادية "الكوميكون" في شرق أوروبا، وحلف "وارسو" الموازي لها. كبرت هذه التحالفات فكانت لها السطوة والمنعة في العقود الأخيرة من حقبة الحرب الباردة. وقفت "الجامعة العربية" على رجليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ووقعت سبع دول عربية في عام 1945، على ميثاق إنشائها في الإسكندرية، وهي : مصر ونجد (السعودية) والعراق وسورياولبنان وليبيا واليمن، فكان ذلك أوّل كيانٍ شكّل ما يشبه الحلف "الجنيني" في منطقة الشرق الأوسط . . (4) تقول "ويكيبيديا" عن "شارل مالك"، أنه شارك بصفته رئيساً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأممالمتحدة، مع المندوب الفرنسي مسيو "كاسان" في العمل على(..اختصار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ثلاثين مادة، وكان ل "شارل مالك" دوراً رئيساً في بلورة نصوصه وصياغتها باللغة الإنكليزية. وهكذا انطبعتْ الوثيقة بأفكار "مالك"، وظهرت في متنها بصماته الدامغة، فضلاً عن تفرّده بوضع المقدمة. وكان واضحاً إصراره على المادة 18 التي تنصّ على حرية التفكير والضمير والدين، والمادة 20 التي تنصّ على حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية وعدم إكراه أي إنسان في الانضمام إلى جمعية ما، والمادة 26 التي تنصّ على حق الإنسان في التعليم. .) (5) صار الرجل بعد ذلك وزيراً للخارجية في لبنان، في عهد رئاسة "كميل شمعون". بعض أناسٍ رأوا في طروحات "شارل مالك" شطحاً غير واقعي، أو في أحسن تقدير، أنها نتاج عقل رجلٍ أكاديمي ومفكر امتهن تعليم الفلسفة في جامعة بيروت، وربما كان بينه والواقع الماثل مسافات ومسافات. ما احتفى اليسار هناك، كثير احتفاء بالرجل، لكن الرئيس اللبناني وقتذاك "كميل شمعون"، رأى فيه الحليف القويّ الذي يوثق به، فاختاره وزيراً للخارجية. وحين انبرى "شمعون" يواجه تيار القومية العربية الكاسح الذي روّج له الزعيم المصري جمال عبدالناصر، أواخر سنوات الخمسينات من القرن الماضي وقد أنشأ إلى ذلك وحدة مع سوريا، وسمّى الدولتين "الجمهورية العربية المتحدة". نظر اليسار اللبناني وبعض المسلمين السنة في لبنان إلى "شارل مالك"، وكأنه الحليف الطبيعي والمروّج للسياسة الأمريكية في المنطقة. اشتدت كراهية اليسار ل"شارل مالك"، وتضاعفت عداواته، ولم يكن محبوباً برغم صفاء تفكيره الأكاديمي المرتب، ورسوخ قدمه في الوزارة. ذلك رجل حاد الذكاء، ودبلوماسي عركته المحافل الدولية، وأبلى البلاء الحسن فيها. سأحدثك عزيزي القاريء في مقالي القادم، عن محمد أحمد المحجوب وزير خارجية السودان، وهو من بين أقرب الأصدقاء لوزير خارجية لبنان "شارل مالك"، وقد تقاربا في التفكير وفي المزاج وفي الاهتمامات، وقد عاشا تلك الحقبة التي شهدت بدايات الحرب الباردة، وكانا بحق مسئولين كبيرين، بحجم الأزمات التي صادفتهما تلك السنوات التي توليا فيها المنصب الوزاري في بلديهما. عند الملمات يزيد بريق الرجال الكبار . . +++++ *كاتب وسفير سابق [email protected]