سأبدأ حديثي بنقد عنواني هذا الذي وضعته للتو، إذ كان يجب أن يكون - لو توخّيت الشفافية والوضوح - على هذا النحو: هل أبقت "الإنقاذ" لنا، ومن بعدها أحزابنا التقليديّة، من مسافة ما بين الكره والنقد الشفّاف..؟ بَيْد أنّي أحب الإبتسارات! والحكي: في عشيّة ذاك الإنقلاب كنت قد أقمت جلسة وداع في بيتنا بود مدني لأحد الأصدقاء الذي كان مزمعا السفر الى موسكو بغية تخفيض وزنه المفرط في الرفاه. كان هناك جمع رفاق فاق العشرين، وأكثر من نصفهم بات عندنا. في الصباح الباكر قام صديق، الذي لا يفارقه راديو الترانزستور الصغير، بالصياح بنا كي نصحو: "قومو يا اخوانا" كان قد تسمّع الأخبار من البي بي سي.. "مالك يا زول؟" سألناه، فأجاب: "انقلاب الدبايب"! فصحونا وعلى رؤوسنا جلسة برلمان البارحة: كان وزير الماليّة (عمر نور الدائم) الذي ضاق ذرعا بانتقادات بعض النوّاب لميزانيّته فصاح: "البلد بلدنا نسوّي فيها الدايرنّو" فتقيّأ البعض منّا: انشاالاه يقلبوها الكيزان هسّع..! ولكنّا حين تسمّعنا المارشات العسكريّة تململنا وتذمّرنا وأعلنا معارضتنا - فنحن معارضون أصيلون وأزليّون للحكومات الديكتاتوريّة في السودان - عسكريّة كانت أم مدنيّة! وكان في عشيّة استلام "المجلس العسكري" لذمام الأمور من سلطة مايو (!) كانت جماهير غفيرة قد فتحت أبواب سجن ود مدني عنوة وأطلقت سراح المعتقلين السياسيين فخرجوا تباعا يهتفون بحياة ونضال الشعب السوداني، أمّا حين خرج المحامي/ مجدي سليم، سأل: الحاصل شنو يا جماعة؟ وحين ردّ عليه البعض: الإنتفاضة نجحت؛ راح يهتف: أنا معارض من الليلة دي.. فيا له من نبيه! كُرهنا، وجلّ شعوب السودان، لنظام الإنقاذ لا يحتاج لتعداد الأسباب وسوق المبررات فهي محفوظة عن ظهر قلب لدى الجميع المعارض/الكاره، ولدى كلّ المكتوين بشظف العيش وبطش السلطة. أمّا نقدنا الشفّاف، الذي لم يتبقى بينه والكره سوى شعرة معاوية، لأحزابنا التقليديّة (أمة، إتحادي وشيوعي) فهو الذي في حاجة لتكرار أسبابه وتقليب معانيها. للذين ما زالوا يتساءلون عن أسباب المعارضة الواهية/ المجهجهة/ المخاتلة/ الجبانة لأحزابنا التقليديّة، نقول: لأن الإنقاذ أتت بإسم الإسلام ورفعت الشريعة على أسنّة الرماح؛ ولأنّ الشريعة والإسلام هما التغطية السياسيّة لبرامج الحزبيْن التليديْن/ الأمة والإتحادي، إذ ليس لديهما بديل للحكم سواهما أتت معارضتهما مرتبكة تعارض المظهر لا الجوهر. وأسّ المشكلة لا تكمن في الإسلام وحده، بل في الدين/ أيّ دين حين يتلفّع بثوب السياسة، ويدّعي الديمقراطيّة كمنهاج للحكم.. ولنا في حلّ الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر أسوةً حسنة، فلقد تمّ ذلك في زمن ديمقراطي، ومن داخل قبّة البرلمان المنتخب ديمقراطيّا، وبه نواب الحزب الشيوعي المنتخبون ديمقراطيّا.. فتمّ ذلك باسم الدين ومخالفة شرعته! والحاكم باسم الدين ليس بالضرورة أن يعادي ويحارب الأديان الأخرى دون سواها، فهو يعادي كلّ من يخالفه الرأي وينافسه على كرسي العرش من أبناء دينه وملته، يكفّرهم ويعلنهم مارغين مستمسكا بشعار: "أطيعوا أولي الأمر منكم" ولئن أتوا الولاية بالديمقراطيّة أم على ظهر دبّابة. فمنذ أن إقتتل عليٌّ (الذي كرّم الله وجهه) والحُميراء (التي أوصى نبيُّ الإسلام الناس بأن يأخذوا نصف دينهم منها) في صدر الإسلام، ما زال المسلمون إلى يومنا هذا يقتلون بعضهم بعضا ويكفّرون بعضهم بعضا. فما باله الحزب الشيوعي يبدو حائرا مرتبكا ينافق أعداءه الأزليّون الذين هم له بالمرصاد ويتودّد إليهم..؟! لنقرأ في حديث السكرتير العام السابق للحزب محمد إبراهيم نقد للصحفيّة سوسن يسن وهي تحاوره: ({ أُستاذ نقد، الحزب الشيوعي معروف عنه أنه ضد تطبيق الشريعة؟ - نحنا ما ضد الشريعة، نحن ضد الحكم باسم الإسلام، الذي يأخذ الإسلام تغطية للمصالح الطفيلية والرأسمالية التي تريد أن (تلهف) قروش البلد وخيراته. نحن ضد هذا. { هل أنتم تتغيرون بعد كل فترة وفترة يا أستاذ؟ ففي حوار كنتُ أجريته مع الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي؛ يوسف حسين، كان قال لي إنكم ضد الشريعة ولن تسمحوا حتى للأحزاب بأن تطبِّق الشريعة؟ - ما ضد الشريعة.. ما ضد الشريعة (ثم قال): مَنْ؟ { الناطق الرسمي باسم الحزب؛ يوسف حسين؟ - والله يوسف حسين على كيفه يعني! خلاص.. هذه مسؤوليته هو! كيف يعني؟ حزب يريد أن يدعو للإسلام نقول له لا؟! أين حرية الرأي؟) الأهرام اليوم 14 - 03 -2011 http://www.alahramsd.com/ah_news/17762.html دعنا من تناسي "الأستاذ" للتعدّد الثقافي والديني الذي يسمُ السودان، لننظر إليه وهو يغالط نفسه بنفسه في سطور معدودات: في السطريْن الأولين يعلن ب"أنّهم" ليس ضد الشريعة بل ضد الإسلام الذي.. ليأتي في الأخير ليعلن بأنّه لا يستطيع بأن يقول لا لمن يأتي باسم الإسلام بدعوى حريّة الرأي؛ فهل هذه فزورة؟! فلا معنى للحكم باسم الإسلام دون شريعته (التي يطبّق النظام أحكامها في كثير من الأوجه الجلد، السبي، حرق الكافر ورميه من شاهق، الجزية، أكل المال العام دون قطع يد لأنّ به شُبهة.. إلخ) وحريّة الرأي تبيح للأستاذ بأن يقول لا لمن يدعو للحكم باسم الإسلام إذا كانت حريّة الرأي مباحة! ولكن، بما أنّهم ليسوا بضدّ الشريعة فليرجوا الجاياهم بما أنّهم "شيوعي" فمن شرعة الشيوعي الإيمان بالماديّة الجدليّة والتاريخيّة ولن تشفع للشيوعي "سودانيّته" أو وطنيّته. كلام سلفقة واستهبال يصل مداه حين يقول: "والله يوسف حسين على كيفه يعني!" فيوسف حسين ليس عضوا عاديّا مارقا لنتركه على كيفو، يوسف حسين هو الناطق الرسمي باسم الحزب، لا ينطق عن هوى! وهنا تتجلّى أزمة الحزب الشيوعي (الذي هجره جلّ الشباب ما عدا قلّة حالمة أو مخمومة) الكهل الذي تتجاذبه الصراعات الداخليّة.. على الأقل، بين من هم مع الشريعة الإسلاميّة ومن هم ضدّها. هذا الخط اليميني الذي كان ينتهجه السكرتير السابق، هو ذات الخط الذي يُسيّر الحزب الآن. فهل تركت لنا أحزابنا التقليديّة، دعك عن النظام، من فسحة بين الكره والنقد الشفّاف؟!! [email protected]