أقف كما الديدبان فى منتصف الحارة التربة الأزقة . تحت شواهد القبور ينام الموتى أما هنا فالناس جثث تتحرك أمامى . كلهم يمرون قربى : سائقو العربات الكارو ، الموظفون ، المتزوجات ، الطالبات ، الجزارون ، بائعو الملابس المستعملة ، الطلاب ، المطلقات ، بائعات الهوى و آخرون . حتى القطط و الكلاب الضالة تمر أمامى . كلهم يقف قربي فأنا حائط مبكاهم . أنا مستودع أسرارهم و أنا مرآة عالمهم . ............. السبت مساءا : حاصر الحبيبات الدقيقة بأصابعه حتى لا تسقط عن حافة الورقة الناعمة ، لف الورقة مخفيا الحبيبات الرقيقة فى جوفها ثم بلل المزيج بطرف لسانه بحب . أشعل السيجارة ببطء وهو يسند ظهره على جسدى الإسمنتى النحيف ( فقدغش المهندس فى مواد بنائى ) ، تناول شفطة أولى بتلذذ طفل شبع للتو من ثدى أمه ، ثم نفث الدخان فى وجه الهواء راسما به دوائر ضبابية . بصق بصقة كثيفة من بين أسنانه التى لوثها السعوط و هو يهتف " يا سلاااااااام " . سأله صديقه و هو ينظر إليه منتظرا دوره فى رضاعة السيجارة " كيف يومك ؟ " . رد قائلا " مافى جديد . ياهو صندوق رونيشى شايلو على كتفى " علق صديقه ساخرا " بتاع ارونيش خريج فلسفة " . رد هو متهكما ". بطل فلسفة انت و شيل ورنيش زى أنا ، الجزم كلها بقت وسخانة " . تساءل صديقه ساخرا " الجزم بس ؟ " ثم أضاف ساخرا " شكلو البلد دى ما دايرة تنضف " . قال هو بإلحاح و حب " اسمع كلامى . و لا داير تهاجر زى نسيبكن اياه ؟ " . لم يرد رفيقه بل تناول السجارة فى صمت ، أما هو فقد غرق فى قاع إنكساراته . أسبوع و هو يتحاشى رؤية صاحب المنزل لأنه لم يوفر قروش الأجار الشهرى . أمه مريضة فى الريف و أخوه يلاحقه بالمكالمات مطالبا بمصاريف الدراسة ، و زوجة أبيه تلح عليه أن يعجل بإرسال الراتب الشهرى . وهو لا يعلم ما يجب عليه فعله للخروج من هذه الدائرة الشيطانية . .......................... الأحد مساءا : جلس " حاج على " و رفيق دربه " حاج عمر " على كرسيين متجاورين ، يدخنان الشيشة و يشاهدان بعض الشباب يلعبون كرة القدم فى الميدان المقابل. "مافى أخبار من نسيبك الفى ليبيا ؟ " سأل " حاج عمر ". هو سؤال يعلم إجابته مسبقا لكنه يبحث فقط عن مادة للثرثرة . رد جليسه بكحة و نحنحنة و كلمات ضاعت حروفها بين سحائب الدخان . تلمس " حاج عمر" ما تبقى فى جيبه من مال ثم أضاف متكهما " لا أعلم لم يسمونه المعاش ، كان الأجدر بهم أن يسمونه الممات " . مر بهما " المبروك " فى جولته التى لا تنتهى . مازحاه لكنه لم يركض كماهى عادته و لم يهتف بعبارته الشهيرة " أحب الله " . بل صاح " الطوفان قادم يا عباد الله " . تساءل " حاج على " مالو " المبروك " زهجان ؟ " ثم استطرد فى أسى "ذهبت أمس إلى المستشفى لكن الطبيب ابن الكلب لم يحضر " . قال " حاج عمر " مواسيا " البركة فى بتك " ميمونة " . رد "حاج على " باشفاق " لشدما عانت هذه المسكينة " ثم رفع رأسه فلمح صقرين صغيرين يصطرعان على جثة عصفور بينهما . ........................... الإثنين مساءا همهم أحدهم و هو يلمح حاج " تمساح " مقبلا بكرشه الضخمة " شوف صاحبك البرجوازى المتعفن جاى " . سألهم " تمساح " بضجر " شفتو الود المتخلف بتاع الورنيش دا " ؟ و قبل أن يجيبوه أردف و هو ينطلق بعيدا كالسهم " لو مر عليكم قولوا ليهو " حاج تمساح " بقول ليك و الله أكان سويت ليك جنحين بلم فيك " . ضحكوا فى سخرية . قال أحدهم " الواحد بقى مرهق من التعفن الأصاب المجتمع دا . زول متخلف زى دا و عندو أربعة عمارات و عربات ما ليها عدد و نحن ما لاقين حق الفول ؟ " . سأله أحدهم زميلا له طويل القامة " هل صحيح يا "حسنين " إنك بتحب بت المتعف دا ؟ " . لمعت عينا " حسنين " بخبث و لم يقل شيئا . صاح أحدهم بصديقه الذى يمسك بكراسة قذرة الغلاف " أقرا لينا قصيدة ياخ ، علنا نصمد أمام هذا الاهتراء القيمى الكاسح " ثم أردف ممازحا " أقرأ لسكان مدينة البهائم يا ديماغوجى يا متسلق " . مر بهم صديق دراسة قديمة و هو يقود سيارة جديدة . حياهم غبار سيارته أما هو فكان ينظر الى السماء فى غطرسة عجيبة. همهموا بعبارات لها علاقة بالسياسة و الحكومات . ................. الثلاثاء مساءا : تنهدت بألم حقيقى و رفيقتها تردد على مسمعها بصوت كالفحيح " ما تترددى " . ثم أسندت ظهرها على جسدى الإسمنتى الناشف و غاصت فى صمت خناجر . قبل سنوات تزوجت ابن خالتها . عاشا يصارعان الظروف ككل أهل الحارة . لكن زوجها أقيل من وظيفته . أقالوه فيما يسمى بالصالح العام فباع قطعة أرض ورثها عن أمه وهاجر الى ليبيا . كان يبعث إليها بمصاريف شهرية انقطعت فجأة . عامان و هى لا تعلم أحى هو أم ميت . أبوها- حاج على - معاشى يختبئ وراء نظارة طبية قديمة و ذكريات لا يمل من سردها عليهم كلما زاروه . أمها توفيت قبل أعوام بالفشل الكلوى . لها أخوان أحدهما – قاسم - خريج عاطل يحلم بالهجرة و آخر – عبدالعظيم - متزوج وغارق فى مستنقع ثمانية أبناء و زوجة ثرثارة . " الموضوع ساهل شربة موية " هكذا أخرجتها رفيقتها " شريفة " – القوادة الشهيرة – من قاع صمتها . " الراجل ميت عليكى موت و مستعد يدفع دم قلبو عشانك " . اصطرع داخلها بصور شتى : ضحكاتها مع زوجها ذات أماسى بعيدة ، روشتة حبوب الضغط التى توفرها لأبيها ، أطفالها الثلاثة ، المعاكسات التى تتناوشها كلما تقدمت بطلب وظيفة ما . عضت على شفتها السفلى بقسوة ، ثم انطلقت مبتعدة وهى تهمس لرفيقتها " قولى ليهو بكرة المسا بشرب معاو الجبنة فى بيتكم " ...................... الأربعاء مساءا الحارة تهتز و كأن زلزالا هائلا ضرب أحشاءها. " خلونا نشوف شغلنا يا مواطنين يا بجم " هكذا صاح الشرطى " عبدالعظيم " و هو يعاين مكان الجثة . تلك الليلة سمع الناس صياح هائلا فزعت له البهائم فى الحقول البعيدة . ركضوا إلى مكان الحادث – موقعى فى وسط الحى - و هناك –هنا - وجدوا جثة " محمود " موظف البنك . كان رأسه مهشما لم تكن ذاكرة الحارة تحتشد بحالات قتل كثر فآخرها حدثت فى السبعينات حينما ألقى بعض السكارى بجنديين فى البئر المهجور فى أطراف الحارة . بعد شهر من العثور على جثة " محمود " تم إعتقال " قاسم " . قال إن الصدفة وحدها هى التى قادته تلك الأمسية ليرى أخته و هى تتسلل خلسه الى بيت " شريفة " . فار دمه و تبعها . وجدها فى حضن " محمود " الذى لم يكد يره حتى ركض خارجا . لكن نادرا لحق به و غسل شرفه . ................. الخميس مساءا أصر دكتور " قاسم " أن يشكو " المبروك " لدى الشرطة . قال ذلك و هو يمسك بقطعة قماش لف بها أذنه . فى الصباح اصطحب " المبروك " حاجة " التومة " إلى عيادة الدكتور " قاسم " بسبب ألم فى كليتها فهى تعطف على الدرويش كثيرا و هو يعتبرها أمه . أساطير كثر نسجت عن ماضى " المبروك " ، قيل إنه كان جمهوريا عذبه زبانية نميرى حتى ضاع عقله ، و قيل إنه كان مغرما بفتاة هجرته و تزوجت رجلا ثريا ، و قيل إنه كان كان تاجرا ناجحا لكن تآمر عليه إخوته ، إلى غيرها من الحكاوى . الدكتور رفض مقابلة الحاجة بسبب أنها لم تدفع رسوم الكشف . تلك الأمسية ربض " المبروك " قربى ، و لم يكد يرى دكتور " قاسم " حتى انقض على أذنه و لولا صياح الطبيب و اندفاع الناس لنجدته لقطعها " المبروك " !! الجمعة مساءا ................ " و مالذى أحرق المكاتب ؟ " سأل " حسنين " صديقه "عثمان " . رد " غثمان " السؤال يجب أن يكون " من " الذى أحرق المكاتب ؟ " . قال " حسنين " متأففا " نضيع وقتنا فى الحلم بجنة عدل لن تتحقق فى بلاد قذرة . الكل يعلم أن " مؤمن " إبن " تمساح " هو من إختلس أموال الأراضى التى يرأس لجنتها و لذلك أحرق كل الملفات " . سأل "عثمان " بخبث " لا تقسو على خال أطفالك المستقبليين " . إبتسم " حسنين " بغموض و همس و هو يوزع الورق على زميله " إن لم أبلغ السعادة بالثورة سأبلغها بالمصاهرة " . مر بهما " عبدالعظيم " العسكرى . حياهما بفتور . سأله "عثمان " عن آخر مستجدات التحقيق فى الحريق فصاح " خليك فى حالك " ثم أوغل فى السير و هو يهمهم بكلمات غير مفهومة . ....... جدة [email protected]