(خواطر لغوية في فقه قضاء الحاجة) ما سمعت كلمة "مُخرجات" إلا وأمسكتُ، لا إراديا، أنفي بإبهامي وسبابتي. وحين تُقرن كلمة "تنزيل" بكلمة "مُخرجات" كما في قولهم "تنزيل المُخرجات" إلا وتذكرت علبة الكبريت ومحتوياتها التي كنا نُسلمها "للفحيص" في غابر الأيام لفحص "الفُسحَة" – ولا أدري اصل هذه الكلمة – وتلوتُ في سري دعاء الخروج من الحمام: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"! – رغم أن الأذى الحقيقي لم يخِف ولم يذهب. أما "المصفوفة"، والتي افتتن بها أهل الحكم، وهي في حقيقة الأمر تعني في لغة الإنس "الجداول"، فهي ترجمة لكلمة "ماتركس" الأفرنجية، أراد ناجروها من الفرنجة التحذلق بإضفاء الصبغة العلمية على كلمة "جداول" العاطلة التي غسل الناس فيها أرجلهم على وضوحها، وتبعناهم نحن تشبها بهم ونحن نخاطب أمة ما زالت الأمية صفة غالبة فيها، فتذكرني بالمثل السوداني "المسفوفة ما بتسمع الصايحة"، وما أكثر "المسفوفات" التي لا بواكي عليها، وأبرزها "المسفوفات" الشرعية من زكاة وحج وعمرة، وغير الشرعية مثل مديونيات البنوك الإسلامية، وميزانيات الوزارات والولايات والمعتمديات، وما دون ذلك من مصادر المال العام القابلة "للسف" والتجشؤ، والتحلل. لا أطيق كذلك كل الكلمات والتعبيرات المرتبطة بما يُسمى "ورش العمل" التي استشرت استشراء الفِطر في الغابات العطنة، وحلّت محل الفعل الناجز، وأنتجت لنا حصادا طيبا مباركا من الهواء الساخن في شكل "أوراق عمل"، و"محاور"، و"مرتكزات"، و"مآلات" – و"مخرجات"، كمان، التي تتخللها استراحات الشاي والقهوة والغداء، والفول "المرَرُو" والبلح. وتمتلئ تصريحات المسؤولين المشورة في الصحف وفي وسائل الإعلام الأخرى، على اختلاف تراتبيتهم وصفاتهم، بكلمات يُمكن إجمال مقصدها في المثل السوداني "عيش يا حمار" من كرم في إزجاء الوعود التي تنعدم نية الوفاء بها، من مثل "يتجه" و"إتجاه"، والتي تعني أن قائلها "ضهبان" فاقد البوصلة والنيّة، كما في قولهم "اتجاه لحل مشكلة المواصلات"، و"اتجاه لتعميم الحاسوب في المدارس" – بعد حل مشاكل الإجلاس والكتب والمراحيض، و"تتجه الوزارة الفلانية إلى تسهيل اجراءات الحج والعمرة والتحقيق في مخالفات موسم الحج الماضي". كذلك تمتلئ أخبار تصريحات المسؤولين بكلمة "وجّه" من مثل "وجه المسؤول الفلاني بتحسين الخدمات الصحية"، لكن الخبر لا يُنبئنا قط بمن صدر له التوجيه: هل هو موجّه للجمهور الذي لا يد له في الأمر، أم إلى الوزارة المعنية التي "نحسب" أن المسؤؤل الكبير يلتقي بوزيرها كل يوم؟ على أن أكثر ما يغيظني من الكلمات الشائعة هذه الأيام (26 سنة) محاولة إسباغ الصفة الدينية على خطاب أهل الحكم والحزب الحاكم والأحزاب المئوية التي تدور في فلكه، في مثل استخدام كلمات من مثل "أحسب" و"لعلّ"، و"حقيقة"، و"استصحاب"، و"مواكبة"، و"أشواق"، و"استخلاف" وغيرها من الكلمات التي يحسب قائلها أنها تؤكد تمسكه بدين الله في وسط الصابئة والكفار والمنافقين. أما الإذاعة المسماة بالقومية، فإسهامها في رشقنا بالمفردات العجيبة التي "تضرس" السامعين من مثل "الباذخ"، و"الجميل" (بتعطيش الجيم)، و"التواصل"، و"الإندياح"، و"القامة"، و"رقم"، و"جهات" لا تُحَدد قط مهما بلغت خطورة التهم، و"إضافة نوعية"، و"رتق النسيج الاجتماعي" – بعد أن اتسع الخرق على الراتق - دون إشارة إلى من مزّقه أصلا، اسهام عظيم خاصة في برامجها الصباحية التي تُبشر بحلول السلام والتنمية في أطراف السودان المحترقة، وتُبشر بنجاح العروة الشتوية، والعروة الصيفية، والاكتفاء الذاتي من القمح، وبنجاح الحوار المجتمعي في أقطار السودان حيث يبحث الناس عن الماء والغذاء والصحة والأمن! رحم الله جورج أورويل (واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير) (1903 – 1950) مؤلف كتاب "1984" الذي صدر في عام 1948 الذي تحدث فيه عن دولة شمولية مستقبلية خرجت بنوع جديد من الخطاب أسماه "الكلام الجديد" (نيو سبيك"، أصبحت فيه الوزارة المكلفة بشن الحرب (وزارة السلام)، والوزارة المكلفة بالتموين (وزارة الكفاية)، والوزارة المكلفة بتزييف التاريخ والحاضر (وزارة الحقيقة)! ولا حول ولا قوة إلا بالله! ++++ [email protected]