لم يتمالك نفسه، هوى بالسكينة الطويلة على ظهر الرجل وهو ساجد على السجادة المصنوعة من سعف النخيل، دون أن يترك له أي فرصة لكي يقول الله أكبر للمرة الأخيرة. تدفق الدم قويا، ملأ المكان، ومعه تراجع الوجع في قلب القاتل، دون أن يبدي أي مشاعر معينة أو يهرب. جلس بجوار القتيل، ينظر إليه وهو يلفظ روحه ويخال له أنه شاهد هلامات تنبعث من الأرض إلى السماء منطلقة من جسد الرجل المسجى على الأرض. جسد أعز الناس إليه ذات يوم مضى. قبل أسبوع أو أقل. جاره الغالي (بركات). أمام ناظريه يبدو ما حدث في الأيام الماضية كفيلم سريع الاسترجاع، كشريط يجر بسرعة دون تمييز بيّن، وبتشوش عالٍ يصعب معه تحديد الفكرة أو الهدف من أي شيء. رأى نفسه يقف أمام الصيدلية، يكلمه: "ماذا قررت بشأن الموضوع الذي كلمتك فيه؟" يصمت بركات لا يجيب رجلاً بائساً، فقيراً.. "الناس لا تبدي احتراما لأمثالك يا مجذوب" يكلم نفسه بغضب.. ويثور مثل بركان خامد، ثم يأخذ طريقه إلى المستشفى ليمارس عمله في حقن المرضى، يفرغ في تلك الظهيرة كل غيظه بغضب مكتوم في النساء والرجال والأطفال.. بلا هوادة.. وبلا تفريق بين أحد وأحد.. تصيح امرأة تعودت على اختياره دون غيره من التمرجية من مساعدي الأطباء: "اليوم حقنتك فيها شيء غير طبيعي يا مجذوب!" لا يجيبها، يضغط بقوة على مكان الحقن فوق ردفها الكبير، لا يبدي اهتماما بالحجم كسابق المرات ولا يرى أمامه من ردف مهم في هذا العالم سوى ردفيها هي لا غير.. ميمونة ابنة بركات الطبيبة الشابة الناضجة، المميزة، حديثة التخرج، ذات المشية التي لا تكرر والنظرات الوقادة حتى لو فيها بعض من الغموض. الملائكي، السماوي. يسمع المرأة تكرر: "لا تضغط شديد يا مجذوب.. أنت اليوم لست أنت" يلصق لها اللصقة الطبية لمنع تدفق الدم من مكان الحقن، يتركها تمضي دون أن يهاظرها كالعادة، يشير بأصبعه أنه لن يستقبل مريضاً بعد الآن، رغم أن وقت نهاية الدوام لم يأت بعد. لا يدخل على الطبيب (عمر)، مديره، ليستأذن بأدب، كما هي العادة. يغادر من الباب الخلفي للغرفة الطبية، ومن ثم الباب الخلفي للمستشفى وفي رأسه شيء مشوش غير واضح.. إرادة قوية للانتقام.. يكلم نفسه: "أيظنني سوف أسكت لا وألف لا.." مرّ على السوق، جلس عند المقهى كالعادة في هذا الوقت، أو أقل بساعة.. من الزمن المعتاد.. لم يكلم أحداً، شرب كوباً من الشاي الساخن شطفه سريعاً يشوي به لسانه دون وعي، ثم خرج وقد تذكر في منتصف الطريق أنه لم يصطحب دراجته الهوائية التي يتجول بها في المدينة معزياً ومهنئاً في المناسبات الاجتماعية، وتأخذه يومياً إلى العمل وتعود به. حاول أن يتذكر أين نساها بالضبط؟! هل تركها في البيت صباحا ولم يذهب بها إلى المستشفى أم أنه نساها وراء غرفة عمليات النساء والولادة حيث يضعها دائما، ولأنه خرج من الباب الخلفي فقد أغفل أمرها. أو أن ذلك جرى، لأنه مشغول بما قرر في ذهنه، ذلك الأمر الغامض؟! في مشيته إلى البيت الذي وصله وابتعد عنه أكثر من مرة ثم عاد دون انتباهة أو تركيز، كان قد استعاد صورة ميمونة كثيرا، رآها وهي تسير بجواره في زفة العرس، وهي تمشط شعرها في البيت نهارا ونساء الحي يشربن القهوة الحبشية وهو يمازحهن بنكاته التي يخترعها يوميا، فقد كان بارعا في ابتكار الطرائف. ومرة ثالثة يرى علوية والدة عروسته، أي نسيبته وجدة طفله القادم في الطريق وهي تخيط مجموعة من الملابس استعدادا لاستقبال المولود القادم، هي لا تعرف إن كان بنتا أو ولدا، وتكتفي بالقول: "في الشهور الأولى لن يفرق الأمر" يصطدم بحجر، يكاد يقع على الأرض، ينتبه أنه قد استطال في أحلام اليقظة، وبدا يفكر أين المشكلة بالضبط؟ هل كل ذنبه أنه فقير براتب مقطوع يستلمه أول الشهر؟! يوم كلّم زميله في العمل مجدي، أحب الناس إليه، سمعه ينصحه: "لا تفكر في الأمر.. أقل لك بوضوح أنسى" أصر عليه، وهو يعلم العلة تماما أن يوضح له أكثر، أضاف مجدي: "يا مجذوب البنت طبيبة وأنت مجرد تمرجي.. لا تكون خيالياً.. هناك شيء اسمه واقعية التفكير.. أنت لا تملك ولو شبر أرض" لا يرد عليه، يشعر بالحقد نحوه، غير أنه ليس كذلك الغبن الذي يسكنه الآن قصاد بركات بالتحديد.. فقد تبددت المحبة بينهما. بدأ يستعيد صورا متفرقة منذ سنوات، كيف أنه كان يُعِين جاره في عمله بالصيدلية بل يتجاوز القانون لأجله. كانت صيدلية بركات الوحيدة التي تُباع بها الأدوية النادرة التي لا تصرف إلا بمشقة عالية، يقوم مجذوب بعلاقاته في المستشفى وأحيانا بالسرقة في تدبير الأمر، وأمامه هدف واحد لا غير. الآن تبخرت كل هذا الأعمال التي قام بها، لم يجن سوى السراب. يسمع بركات يكلمه من وراء البترينة الزجاجية في الصيدلية، وهو مشغول بزبائنه، لم يعد يحفل به كسابق الأيام.. ربما هو الإلحاح المتكرر. هو يعرف أن بركات يمكن أن يكون طيبا وإنسانا ورجلا. لكن قصة ميمونة هذه خربت كل شيء.. لم يعد من سبيل تستمر به العلاقة كسابق عهدها: "أسمع يا مجذوب.. ربنا عرفوه بالعقل" "أعرف قصدك.. أن أغلق هذا الموضوع؟" "والبنت رأيها؟" يشعر مجذوب بالخزي الصريح لأول مرة، فثمة صرخة مكتومة تخرج من فم جاره ممتزجة بضحكة غير مرغوبة وبصاق يتطاير في الهواء. يضيف الجار: "خَلْصَّنا.. وخِلِصِّنا" كانت إشارة تعني الانصراف ونسيان الموضوع برمته.. ولكن هل سيكون قادرا على النسيان؟ هل سيتغافل بسهولة ميمونة وهي تقيس معايير الدواء في غرفة الاستشفاء وهي تلبس كمامة التنفس النقي قبل دخول العملية وهو يقف بجوارها يجيب أوامرها.. هات المقص.. المشرط.. اللاصق.. هي السيدة وهو العبد المطيع؟.. ثم يغفل عن المكان يكاد يشتمها أو يعانقها أمام بطن المريض المفتوحة في الغرفة تحت الضوء المركز على الزائدة الدودية التي تقطعها بحرفية وترمي بها في صندوق الزبالة البلاستيكي يمده مجذوب بكل محبة، يتخيله علبة خاتم الخطوبة. يغلق صندوق الأسى والذكريات.. يتقدم من الباب المفتوح لبيت الجار، يسمعه مكبرا في صلاة العصر.. الله أكبر.. يخفي السكين وراء ظهره، وراء البنطال الأبيض، يكون قد نسي الله وأحب الشيطان.. أفكار مشتتة تتداخل في دماغه غير القادر على الهدوء.. "أين الله؟ وأين العدالة؟ وأين الشيطان؟" يكاد يصرخ ثم يكتم صرخته حتى لا يخرب هدفه.. يقترب من الرجل.. في لحظة سجوده، ليس مهما أن هذه الصلاة مقبولة أم لا. ولماذا يفكر في ذلك الآن؟ ليس مهما أيضا!! ثم يهوي بها من علٍ.. السكين التي استلها من مطبخ أمه.. الحاجة نفيسة التي كانت تنتظر يوم سعده وهي الآن تبكي صريعة تنظر إليه وهم يقودونه بثياب بيضاء أخرى غير تلك التي كان يذهب بها إلى المستشفى. ثياب السجن ومن ثم إلى الإصلاحية والمستشفى النفسي. تقرير طبي أمام القاضي، يفيد كالعادة.. "يعاني مجذوب حسين بلال من حالة عصابية.. أدت به إلى ارتكاب هذا الجرم.." تنهار نفيسة في المحكمة وهي تسمع القاضي يتلو التقرير بصوت جهور، الجميع يسمعها تصرخ بآخر عباراتها الهادرة وسط هدوء القاعة المكتظة بالأهل والأصدقاء والمتطفلين.. "لا ابني ليس مجنونا يا حضرة القاضي" [email protected]