البواخر النهرية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة في تلك الفترة التي تنقل المواطنين والعساكر والبضائع إلى الجنوب وكان جل العاملين في هذه البواخر من قبيل الدناقلة أو بالأحرى من نوبة الشمال ولا نعرف السر في ذلك وبعد شهرين إنطلقت الباخرة النهرية في إتجاه جنوب السودان بأعداد هائلة من العساكر واسرهم وفي رحلة إستغرقت 23 يوم وصلت الباخرة إلى ملكال ومنها تم نقلهم بالناقلات العسكرية في ظروف بيئية سيئة وطرق وعرة إلا أن الذي ساعدهم في سرعة الوصول إلى جوبا هو عدم تمدد التمرد نحو المدن الشمالية من جوبا كما قال جبلنا في حديث له معنا حول هذه التجربة فقال تحديداُ المدة التي قضوها في الطريق والسفر والانتظار من كادوقلي إلى جوبا تصل لقرابة 5 أشهر وكانت جوبا في تلك الفترة لم تكن بأحسن حال بل أن الذي كان يزينها هي كنيسة كتور تلك الكنيسة العملاقة التي تقف شامخة حتى الأن برغم جور الحرب وسفالة المستعربين والتي رسمت ودافعت عن أهل الجنوب بكل شراسة وساعدت الجنوبيين في أحلك الظروف ومختلف المحافل ولم تتوانى في ذلك قيد أنملة ورسمت على جوبا الطابع الأفريقي كمدينة أفريقية عريقة وتأثير دول شرق أفريقيا كان بادياُ عليها والوعي الجمعي للقارة وتحررها كان مسيطراُ على الجنوبيين وبالذات النظرة المريبة للقادمين من شمال السودان ونظرتهم لهم بأنهم مستعمرين جدد لكن بعقلية الوطنيين الذين ينهبون ثروات الجنوب وتحويلها إلى الشمال من دون خلق تأثير تنموي أو تعويض لأي تنمية مطلوبة لأصحاب الأرض لقد أتى هؤلاء الذين خلفوا الأنجليز في استعماره ومارسوا نفس الأسلوب ولكن بصفة الوطنية المفتري عليها أتى هؤلاء الذي قال عنهم بيتر أناي كلويلجانق مؤسس صحيفة التراث الأنجليزية في قصيدة بعنوان إبن عمتي محمد My cousin Mohamed أبوك ذلك العربي جاء من أزمان بثقافة قومه وبالقرأن ........... ولكن .....بلا أمة يسكن إليها كزوجة ...........جاء يروم أن يعيش بين أصدقاء . لا بين عبيد جاء كي يعيش ......ولذا.....ودنما أدنى التفاتة للونه أو عنصره .......... قد كان ميسوراُ له على الدوام .......أن يحيط نفسه ...وكيف شاء ,بالإماء وبالجواري الصبيان الحسان ... وهكذا اتيت يا إبن عمتي محمد ...........أتيت أنت في الشمال ثمرة لعمتي ........ تلك الأمة الصبية التي لطالما تمسكنت للذل والهوان ...........حتى إعتلت , بقوة الدماء وحدها . بنيان نصرها المؤزر الفصيح ...ويا للحقيقة الضخمة في سمو جبل الأماتونج .... فها أنت لست مثلما كان أبوك ...ذلك العربي الفصيح .... إنت يا إبن عمتي هجين أرض أفريقيا هذه ...والناتج النفيس ..لسنى حربها الطويلة الضروس ..... هكذا كتب أبناء الجنوب الشعر المملوء بالحقائق الماثلة للذين نبتوا في السودان وهم مشوشين في تفكيرهم وموتورين في حياتهم وأخيراُ موهومون بأصولهم المزورة . وصلت قافلة جبلنا إلى جوبا ووجدوها تمور موراُ والتمرد يواصل حربه الضروس ضد القوات الوطنية أنذاك والأخرين من هذه القوات يسرقون الثروات ويرسلونها إلى الشمال وهم الذين عكسوا الصورة السيئة والمشوهة عن الشماليين الذين ذهبوا إلى الجنوب بغرض التجارة وغيرها إلا أن بعض هذه القوات كانت لديها بعض من العقيدة العسكرية النبيلة التي تحمي المدنيين أثناء الحرب لكن كل ذلك لم يكن كافياُ في نظر الجنوبيين ولذلك كانوا يطلقون عليهم ( جيش المندكورو ) وكلمة المندكورو بلغة أهل الإستوائية تعني المستعمرين الجدد هذه النظرة لم يسلم منها الأفارقة الأقحاح النوبة وقبائل دارفور وأقصى شمال السودان الذين أتوا من ضمن هذه القوات العسكرية بوليساُ أو جيشاُ فلم لا والعقلية العروبية الفقيرة تعمل عملها في عقول هذه القوات ولم يدري هؤلاء بان الدائرة سوف تكتمل بهم عندما يقضون على التمرد في الجنوب وسحقه وهم بذلك قد قدموا خدمة جليلة لهؤلاء الرعاة والغزاة من دون أن يخسروا أبنائهم أو أحفادهم في هذه المحارق لكن بعد أن فقدت العروبة بريقها وزخمها في تلك الفترة وتشتت لمعانها وسط ضربات التمرد خرجوا لنا بالإسلام وكيف ان هذا الدين قد أفرغ من قدسيته واصبح أداة للإضطهاد والإستلاب والإستعباد وقد نصبوا انفسهم بنشره إما سلماُ أو حرباُ أو قتلاُ فلم يسكت الجنوبيين لهذا وقالوا في ذلك إذا كان هذا الدين يدعو إلى ذلك فليذهب هذا الدين وأهله وليبقى الإنسان فكان الإنفصال الذي كان نتيجة لهذه السياسات الممنهجة من سفر الولاء والمناطق المقفولة إلى مؤتمر جوبا الذي أظهر فيه هؤلاء الرعاة والغزاة مدى سفالتهم ورعونتهم وكيف أن هؤلاء الغزاة مارسوا أبشع أنواع الخسة والرذالة وإستغلال حوجة السلاطين والمكوك ودفعهم للتصويت والمطالبة بالآنضمام إلى الشمال في ذلك المؤتمر التاريخي وكانت أول أثاره هو أحداث توريت 1955 التي راح ضحية لها مجموعة من الأسر الشمالية بتوريت هذه الأحداث التي وقف فيها البروفسير عبدالله الطيب فطفق يكتب ويهجو أهل الجنوب بهجاء لا يقل بشاعة عن هجاء المتنبئ لكافور الاخشيدي ويذكرهم بالزبير باشا وقائل في ذلك . – ألا هل درى قبر الزبير بأننا *** نذبح وسط الزنج ذبح البهائم . هذا البروفسير يشير إلى الزبير باشا كجده وتاجر رقيق وقد أثبت هذه التهمة وهي ممارسة هذه المهنة التي كان يمارسها أباءه وأجداده وهم يحاولون التنصل منها إذا كان ذلك هو عالمهم الذي تعلم في الغرب ونهل من القيم الغربية التي تحترم الإنسان والإنسانية وتسمو بالقيم النبيلة بين كافة بني البشر لكن ثقافته وهويته التي نشأ بها لم تمنعه من نسيان ماضي أجداده بل تذكرهم لكي يعيد ماضيهم المخزئ والمشين . فماذا كان ينتظر الجنوبيين من هؤلاء في تلك الفترة وهم مازاالوا يمجدون جدهم الزبير باشا حتى الان وإزدادوا في ذلك بتمجيد ذلك الذي أهدر دمه ولو تعلق بأسوار الكعبة عبدالله بن أبي السرح , هؤلاء الرعاة والغزاة الذين أوغلوا في سفك دماء الشعوب السودانية في كل مراحل تكوين الدولة السودانية حتى الأن لم يكن ذلك من محض الصدف بل كان برنامجاُ ممنهج وقد ظهرت معالمه في السنوات الجارية وقد عرف الجنوبيين أن خيارهم الذي طالبوا به قد خدعوا فيه ولا سبيل في تحقيق ذلك إلا بحمل السلاح .كانت جوبا نقطة الإرتكاز والإنطلاق إلى بقية مدن الجنوب وقد إلتقى جبلنا من خلال وجوده في جوبا بأحد أفراد أسرة والدتنا وهو الخال المرحوم عليه الرحمة محمد داؤد رجل البوليس العتيد والضابط القدير الذي أسس مدرسة البوليس في جوبا في تلك الفترة وهي الان تقف شاهدة على عظمة هذا الرجل ولا نعرف هل أهل الجنوب يتذكرونه أم سنوات الحرب الطويلة قد محت معالم هذه المدرسة وعلى يديه تخرج كثير من قادة البوليس الجنوبيين وهو والد الفنان التشكيلي والضابط بالجيش الشعبي موجو محمد داؤد وشقيقه خبير الصمغ ياسر محمد داؤد ومن هنا أرسل رسالة لكل الذين يمسكون بنار القضية وهم يرسمون الحياة بشتى صورها ثقافاُ , فناُ أو مهنةُ فلا يتركوا هذه المجالات وهم قابضون على القضية لنرسم قضيتنا من خلالها فلا نترك البندقية وحدها تقوم بهذا الدور وهي التي قطعت كل الطريق وتبقى الجزء الأخر الذي يجب أن يقطعه كل شعب جبال النوبة . In God we trust All Others we Track مكث جبلنا في جوبا لفترة وذلك لأسباب أمنية وتصاعد العمليات العسكرية في المدن الجنوبية وتحديداٌ مريدي الذي وزع فيها بالاضافة إلى يامبيو وأنزارا وكبويتا ونمولي كلها كانت ترزح وسط ضربات التمرد وتصاعد العمليات العسكرية ونتيجة لهذا النشاط المحموم كان السفر من جوبا إلى أي مدينة أخرى يتم عبر القوافل المدنية والعسكرية معاُ ويعرف ( بالطوف ) . بعد أربعة أشهر ونيف تحركت قافلة جبلنا قاصدة مدينة مريدي وكانت هذه الرحلة هي الأخرى تمثل محطة من المحطات الصعبة في حياة جبلنا وهو يخوض حياة الأدغال والمستنقعات والغابات الإستوائية المتشابكة وفي حالة حرب وتمرد مع اصحاب الأرض الذين يعرفون أرضهم شبر شبر بل شجرة شجرة فما بال الذي يأتي لأول مرة في تلك الأرض وهو برفقة زوجته التي خاضت معه تلك اللحظات الصعبة والقاسية والموحشة وهو يؤدي واجبه الوطني في كل تجرد وصبر وجلد وفي أهلك الأوقات التي فيها الإنسان يحارب أخوه الإنسان والحيوانات تفترسه والأمطار والبعوض تفتك به .لقد وصلت قافلة جبلنا بعد 22 يوم إلى مريدي وهي المدينة التي يمكن الوصول إليها في الظروف العادية في خلال ثلاثة أيام وقد واجهت هذه الرحلة بعض الغزوات الخاطفة من حركة الأنانيا إلا إنها واصلت سيرها بصعوبة وبسالة إلى أن وصلت وقد توفي منهم بعض الاشخاص من المدنيين والعسكريين وعند وصولهم خرج سكان المدينة لإستقبالهم والترحيب بهم وهم يمنون أنفسهم بالبضائع والمواد الغذائية المحمولة في هذه القافلة وبالتحديد الملح فهذه السلعة كانت تشكل أزمة حقيقية لمواطن جنوب السودان في تلك الحقبة حيث كان يشكل إنعدامها أمراضاُ متعددة لدي الجنوبيين وكان أكثرها شيوعاُ هي الغدة الدرقية وكانت ناتجة من جراء نقص مادة اليود الموجودة في الملح وكانت مريدي في تلك الحقبة كغيرها من المدن الجنوبية تقع وسط الأشجار العملاقة والغابات الإستوائية الكثيفة إلا إنها تتمتع بأهم فاكهتين في جنوب السودان الأناناس والموز وكانت تشتهر بذلك وقد إستغل المستعمر تلك الثروة فأنشأ مزارع ضخمة وبها منشأت تخزين ومصنع صغير لتعليب الفواكه ومنها تصدر إلى إنجلترا ودول الجوار عبر بوابات السودان الحدودية الجنوبية من دون علم الشماليين ولقد تفاجأ جبلنا ومعه زوجته بهذه الثروة وهم القادمين من أرض الجبال .لقد أفرغت القافلة كل حمولتها من المؤن وغيرها من البضائع والعتاد وكانت العلاقات بين البوليس والجيش علاقات أكثر من أخوية لدرجة أنك لا تعرف من هو البوليس ومن هو العسكري حيث تحتم عليهم أن يتعايشوا في ذلك الوضع لأن لا خيار من غير التضامن مع بعض لمجابهة الظروف القاسية التي وجدوا أنفسهم فيها وكانت كل الأسر القادمة من شمال السودان لا يفصلها أي شئ كلها كانت اسرة واحدة , وشاءت الظروف أن يسكن جبلنا في منزل بعيداُ نسبياُ من حي تجمع الأسر ويقع هذا المنزل بالقرب من مزارع الأناناس الضخمة وكان شبه مهجور فرفضت غالبية الاسر السكن فيه ففضل جبلنا السكن فيه مع زوجته حسب قوله .بعد أن غادرت القافلة عائدة إلى جوبا وبها الوحدات التي تم توزيعهم وإستبدالهم ومعهم المرضى أصبحت المدينة ساكنة بعض الشئ في تحركاتها وحركتها وفي الليل تسمع أصوات الرصاص وعواء الذئاب والحيوانات فكانت مدينة أفريقية بحتة ترسم بملامحها كل الثقافات الأفريقية العريقة والطبيعة الساحرة والبيئة النقية , فمكث جبلنا في هذا المنزل مع زوجته وكان موضع تساؤل وإستفسار من قبل زملاءه كل يوم فكان يرد لهم بأنه ولد وسط الجبال وتربى وعاش فيها وأن هذه الغابات بديلة للجبال ليس إلا . وبعد فترة قليلة كلف جبلنا مع أحد زملاءه بالعمل على تنظيم مخازن البوليس وتوزيع المواد الغذائية لبعض المناطق التابعة لرئاسة البوليس في مريدي هذه الفترة التي قضاها في هذه المهمة جعلته أن يتعرف على معظم مدن الجنوب الإستوائية وعلى قبائلها المتعددة وكانت الحرب في أوجها والتمرد يواصل عملياته فقد سألناه كيف كان يواجه المتمردين وهم في طريقهم لتوزيع المواد الغذائية وبرفقته مجموعة من الحراسة فقال أنه كان يتعامل معهم بصورة ودية وعقد الإتفاقيات السرية لتوصيل الغذاء وكانوا يطلبون الملح وبعض الحاجيات فكان يزودوهم بها ,هذه خلقت له إحترام بين المتمردين الذي يمر بطريقهم وقد تعرف عليه الكثير منهم ولم تكن هي الأخيرة بل أن بعضهم يأتي ليلاُ في الظلام الدامس لمنزله وتطبخ لهم زوجته ويزودهم ببعض الحاجيات ويذهبون من خلال هذا التعامل الإنساني وفي زمن الحرب الشريفة التي تحترم تقديم الغذاء والدواء لكافة أطراف النزاع من دون إستثناء هكذا كانت الحرب في السودان قديماُ وللننظر الأن مع أصحاب الديانة الإسلامية الذين أتوا بها لنشرها بالقوة ومنع الغذاء والدواء من الأطفال والنساء والعجزة في هذا الزمن الظلامي الذين يريدون به طمس القيم الإنسانية النبيلة بدواعي الإسلام . لقد تفاجأ جبلنا يوماُ بزيارة ليلية لبعض أفراد المتمردين وقد تحدثوا معه وأخبروه بأنهم عرفوا بأنه من جبال النوبة فاطلقوا عليه إسم جبل كإسم مستعار له وإشتهر به وسطهم ولم يكن وحده من أبناء النوبة القلائل في البوليس بل الغالبية في الجيش فكان جبلنا ينتقل بين مدن الجنوب المتعددة حتى 1964 ما يعرف بثورة إكتوبر ومؤتمر المائدة المستديرة لحل قضية الجنوب وكانت فترة هدنة إلا أن الحرب إستأنفت مرة أخرى حتى جاء النميري 1969 بإنقلابه . The brilliant of the moon can only be experienced through the darkness of the Night . نواصل الحلقة الأخيرة 2 .................................. مادوجي كمودو برشم ( سيف برشم ) E –mail : - [email protected] إنجمينا – تشاد