كتب وقراءات إنها وردة كونية قراءة في ظل الوردة للشاعر يوسف الحبوب (محاولة لتسلق ظل الوردة) مجموعة شعرية جديدة للشاعر السوداني يوسف الحبوب صدرت عن دار صفصافة للنشر بالقاهرة فى مطلع هذا العام. محاولة التسلق لظل الوردة أوصلتني إلى مرفأ تلاقى فيه شعراء وشاعرات من فج المعاني العميقة ، شعرً بسيط ، سهلُ ومنساب ومع ذلك عميق، كمن يجدف في بحر هادئ , ثم تغطس فيه سفينة القصيدة شيئا فشيئا الى جوف البحر حيث الكنوز المخبأة في الشعر. أقرأ و ظل الوردة يتمدد كونيا، هكذا تصاعد عاليا صوت الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان حتى أن صوتها باللغة الالمانية تسلق ظل الوردة. أظل دائما أنا أصعدُ أصعدُ عاليا وحين أقعُ أقعُ كلي ولكنها لاتقع الوردة لا تقع وهكذا هي وردة الشاعر يوسف الحبوب حيث يقول في مقطع منها: ( لكنهم لا يدركون أن الأغصان تتقن التسلق نحو ظل الوردة وأن القصائد لاتموت... ). كانت الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان هنا، عائدة من الضفة الأخرى متمددة في ظل الوردة حين بدأتُ القراءة ، من أول نص في مجموعة الشاعر يوسف الحبوب (أحاديث ووقائع جففتها الذاكرة) وإلى نهر المجموعة الهادر في تفتح الوردة من رمادها، الوردة العنقاء التي لا ولن تموت وإن (تعرضت للخيانة) حيث يقول الشاعر الحبوب: تتعرض القصيدة للخيانة تفرغ من محتواها ويمحى حبرها المندلق والأحرف اللامعة هكذا هم أشهروا أسلحتهم البلهاء انتزعوا وردتك الأنيقة هكذا هم أبعدوا الأغصان عن محاولة بديعة لتسلق ظلك هكذا هم دوما لا يدركون أن ألاغصان تتقن التسلق نحو ظل الوردة....) أليست هي نفسها التي كتبها الشاعر الروماني كلن باول بالألمانية بخط يده الى الشاعرة النمساوية انغبورغ باخمان في رسالة شاعرية وقمت بترجمتها علي هذا النحو: هي قلوب من بائعة الورد تفرهد زرقاء في أحضان الماء تأخذينها من يدي وردة كبيرة ليست بيضاء ليست حمراء ولا زرقاء ومع ذلك تأخذينها ، فهي لن تعود حيث كانت ولا نحن ولكنّا نبقى معا) الوردة فواحة بالتغيير، هكذا لن تعود حيث كانت ولا الإنسان حيث كانت حالاته بالأمس ولكنه رفيق لها.. رفيق التغيير. وزهرة أمل دنقل تلك التي تعرضت (للخيانة) لا تقل عن وردة الشاعر الحبوب التي تعرضت لذات الخيانة.. الوردة هنا وجه الحرية وحين تقطف تذبح الحرية من وريدها. (تتحدثُ لي الزهرات الجميلة إن أعينها اتسعت دهشة لحظة القطف لحظة القصف لحظة إعدامها في الخميلة) وظل الوردة هي محاولتي لأتسلق أشجار الشاعر النمساوي أريش فيريد... ثمة صلة وجدانية في نصوص كل هؤلاء الشعراء ، هي حالة القراءة وطقس القصيدة يتماهى بجسارة تتجاوز المقارنة بين نصوص أريش الحرة ونصوص الحبوب الأكثر شوقا للحرية. هكذا أتلمس كشاعرة تلك الوشيجة الصريحة ما بين الوردة ووردة شاعر نمساوي آخر عاش في القرن الثامن عشر. كيف يحدث هذا إن لم تكن قدرة القصيدة المتفجرة في مشاعرها وحالات طقسها لتكمل قوسها بقزح يجمل وجه عالمنا المربك؟ هي حنين الطمي مابين النيل والدانوب. ترى لو وجدت شواعر وشعراء بلاد النيل هناك حيث دربتني الكتابة على تحمل الحياة لو وجدوا ماوجده أريش فريد وكرستينا لافينت وأنغبورغ باخمان، لو .. لما تحمل العالم ظل الوردة ولما كانت المحاولة بهذا العمق بسهولة الماء مفجرا جدولا في الروح. وردة الشاعر يوسف الحبوب حرفت مسار كتابتي عن المجموعة، ترى لو لم ابدأ بها، هل ستكون بوصلة الكتابة عنها مغايرة؟ قصيدته التي حملت اسم المجموعة (محاولة لتسلق ظل الوردة) سرقتني من بقية نصوص المجموعة المتميزة ويبدو لي أن كل نص يوحي لمن يقرأه بصورة تحرك وجدانه نحو إصرار الوردة فى تفتحها نحو الشموس، هي الوردة التي بدأت أتتبع مسارها، متسلقة ظلها تارة وتارة أخرى أتتبع رحيق قصائد الشاعر والفيلسوف الألماني غوتة، قصائده السبع التي كتبها عن (وردته) باتجاه بنفسجته، باتجاه سؤال الورد في ثقافات الشعوب وتقاطعاتها وانعكاساتها على وجدان ومخيلة الشاعر. مالسر في الوردة حين يكتبها الشاعر السوداني يوسف الحبوب ويكتبها غوته الألماني أو أمل دنقل المصري ومحمود درويش والشاعرة مونيكا مونسر التي برعت في أشعارها عن الورد؟ الوردة رفيقة الحرية، تتفتح خميلتها بالكلمات الحرة، بالمعاني الثرة، تنطلق بريشها الملون وتفرهد قارعة كل النوافذ الكونية.. أليست الحرية حلما ورؤية كونية ؟ أليست الوردة تعبر عن أشواق الناس عن المخبوء بين أكمامها من نحل وفراشات تجعل (النعاس يسيل) أخيرا على ظل الوردة فتهجس قليلا ولكن شاعرها لا يفعل، كيف يفعل وهو يحرس رحيقها ومياسمها وبتلات الحلم، حلم الحرية الذي لاشك يتفتح بعطرها الفواح مهما (أشهروا أسلحتهم البلهاء في وجهها). سر الوردة في فواحها الكوني الذي يتسلقه القارئ بكل أشواقه وحنينه لما يشذب حدائق روحه الباحثة عن سلامة وجدانها. دنقل أراد لوردته أن تعيش والحبوب أراد لوردته أن تتفتق ألوانها اتساقا مع تعدد شعوب السودان وبهائها وغوته لم يترك وردة في قصائده السبعة إلا في تمام إزهارها وثمة أفق لتشرئب فيه كل هذه الورود مع زهرة اللوز لمحمود درويش، إنه إذن ظل الوردة التي حاول يوسف الحبوب أن يجعلنا كقراء أن نتسلقها، عبر فواحها، فواح ( حوائها الودود الولووووووووووووووووووووود) كما سطرها الشاعر قبل ختام القصيدة والتي أكدت أن ختامها مسك بدايات التعلم، التعلم من (المحاولة) التي كم تعثرت (فزاد قبحهم) وتعثرها مهد الطريق، الطريق الذي نبنت فيه وردات الارداة، ارداة التغيير، الأمل الذي لم ينكفئ في ميسمها بل تنهض.. تنهض مثل (القصائد/البدائل البلاد). أي حياة وأي فضاء بين القصيدة والوطن؟ رحيق الورد يكون بطعم البلاد المشتهاة في عيني الشاعر، والشاعر وجدان شعبه والناطق باسم أحلامه العظيمة. هكذا هي الوردة، مرصوفة على دروب الكون لتكون بفواح كوني. أليس رحيق الوردة هو من تعرفه فراشات حطت على زهرة اللوز التي لن تنسى محمود درويش؟ فكيف تنسى الوردة من تحدثوا عن مجدها وجعلوا الريح تنثر فواحها في كل الامكنة؟ (لا وطن ولا منفى هي الكلمات، بل ولع البياض بوصف زهر اللوز لا ثلج ولا قطن فما هو في تعاليه على الأشياء والأسماء لو نجح المؤلف في كتابة مقطع في وصف زهر اللوز، لانحسر الضباب عن التلال، وقال شعب كامل: هذا هوَ هذا كلام نشيدنا الوطني!) هذا إذن (نشيدنا الوطني) والدعوة للمحاولة، محاولة لتسلق ظل الوردة!! مفردة محاولة التي تبدو للوهلة الأولى بلا جرس موسيقى ولكن حالما ندخل في قلب القيظ والصهد وتهمي الروح وراءه تبحث عن الظل الممتد نغوص حينها في العمق، عمق الفكرة والنوتة الموسيقية والخيال الرحيب. يالها من دهشة، الدهشة ليست في ظل الوردة ولكن في محاولة تسلق ظلها، كأنما يتسلق الشاعر الزمن. كيف و الزمن غير مرئي ؟ الوردة هي قصيدة لها حبل سري يوصل مابين البساطة وعمق الفكرة. بساطة أن تخترقك كرصاصة من ماء رحيم ثم تشهق وأنت تهوي الي عمق الفكرة.. السهل الممتنع. البساطة في النصوص تخرج من جوف اليومي حارة كخبز الأمهات، (إن القصائد لاتموت فحواؤها ودود لووووووووووود) رسالة الوردة تُكمن في دعوتها لمحاولة تسلق الظل. الظل هو الزمن الذي استنطقته الوردة لأجل التغيير. هي مهمة الشعر إذن وناره الوهاجة التي تكمن تحت تراكمات الرماد، تلك الجمرات اليقظات في اللاوعي يهف رمادهن والرماد لايعني سوى نار تلك الوردة التي تهدر بالحياة فهل يتحمل هذا الجمال من حاولوا تقبيح وجهها فازدانت جمالا؟ ازدانت جمالا لأنها وردة كونية. وردة تتفتح بتواريخ صراعها الطويل ضد الجفاف، البارود والبيانات المريرة ، تتراخى اوراقها ثم تتفتح من جديد بالإرادة والتغيير مقاومة جفاف الفصول والأزمنة. إيمان الشاعر بوردة الحياة، يسقيها، يراعاها كي لا تذبل، يشد ازر حلمه بها، تتفتح، تضحك، تحزن، تتراخي فيها الحياة ولكن يظل حبر الشاعر كلورفيلها ، الحبر الذي لا ينضب بل ينبض خلجة خلجة فى وريده فيشجيها بأحلام الناس وحقهم في الحياة الكريمة. (اثر رماد)... يتناثر رماد الخرائب وتشع تلك الجمرة التي يتلهب حنينها إلي الاشتعال وتستمر المحاولة لتسلق ظلها. هي الوردة المشرعة بتلاتها والتي صورت حالة وجدانية هي أشواق الانسان للحرية وصراعه المرير لأجلها. الحرية التي تبدأ طقسها حين الكتابة وتختلق عوالمنا حين نقرأ وظلها يتمدد فى هجير تفاصيل البلاد تمسح نسمة على قلوب الناس التي لفحتها سنوات الكبت المريرة بهجيرها وقسوتها ولكن الوردة اقوى. أي طاقة إذن تتفجر حين قراءتها حتى تتشق الجدران باذرع الوردة المشوكة، فيمتدد الفضاء، فضاء الوردة – الحرية فنراهم بوسامتها يتفتق لونها في حضورهم البهي، على فضل، التاية، بهنس واطفال، نساء ورجال تفحموا في الحرب الضروس. إنها وردة كونية، فحيثما يكون الانسان يكون ظلها مثلها ومثل محاولتهم المستمرة كجريان النيل لأجل التغيير. الشعر يكون شعرا حين يكون منفستو للأنسانية في كونيتها الخلاقة مثل وردة الشاعر يوسف الحبوب التي غرسها فى الناس شعرا واعيا منحازا لهم ولأحلامهم. إنه الإنتصار الصاعد نحو فضاءات الحرية وهي الوردة التي سرقتنى من بهاء النصوص التي حوتها المجموعة ولا تقل جمالا في معانيها عن نص ( محاولة تسلق ظل الوردة). د. إشراقة مصطفى حامد فيينا- النمسا [email protected]