أشرنا في مقال الخميس إلى أن في حزب المؤتمر الوطني من يقرعون طبول الحرب مع الجنوب انطلاقا من نية مبيتة للتنصل من حق تقرير المصير وعرقلة الاستفتاء، ودعاة الحرب هؤلاء يشنون هجوما عنيفا على" عقلاء المؤتمر الوطني" الذين تجاوزوا مرحلة" الاستثمار في الهوس والتعصب الآيدولوجي" ويتعاملون مع التعقيدات السياسية التي تواجه البلاد في هذا الوقت الحرج بواقعية تميّز بين ما هو ممكن موضوعيا بحسابات السياسة محليا وإقليميا ودوليا وما هو ممكن بحسابات الرغبات والتمنيات المبنية على الوهم والوعي الزائف بحقائق الماضي، والحاضر.. وشتان بين ما هو ممكن "واقعيا" وما هو ممكن"رغائبيا"! وتجريم اتفاقية السلام الشامل التي وقعت عام 2005)، وانطلاالهجوم الذي يشنه تيار الحرب في المؤتمر الوطني على تيار السلام يدور حول محور (تخوين قا من هذا التخوين والتجريم يوصف الفريق التفاوضي الذي مثل المؤتمر الوطني في مفاوضات نيفاشا والذي يقود التفاوض الآن مع الحركة الشعبية حول قضايا ما بعد الاستفتاء في صحف"تيار الحرب" بالاستسلام والانهزامية والانبطاح والانصياع لمخططات الصهيونية والامبريالية الأمريكية، وأخطر ما ينادي به هذا التيار هو الانقلاب على اتفاقية نيفاشا نفسها والتنصل من حق تقرير المصير والعودة إلى ما يسمى ب"المشروع الجهادي"!! إن حدث انفصال الجنوب المتوقع كنتيجة شبه حتمية للاستفتاء المرتقب هو حدث مفصلي في تاريخ السودان، وهو حدث يستوجب من الشمال السياسي ولا سيما النخبة الإسلاموية التي حكمت البلاد لأكثر من عشرين عاما المراجعات الفكرية والسياسية الصارمة، ولكن حتى تكون هذه المراجعات مجدية ومفيدة للحراك السياسي في المستقبل لا بد أن تكون مراجعات في الاتجاه الصحيح، أي في اتجاه الانفتاح والديمقراطية والتخلي عن العنصرية والاستعلاء والتعصب وعقلنة السلوك السياسي، أما ما تدعو له صحف"تيار الحرب" في المؤتمر الوطني من انقلاب على السلام وعودة إلى الحرب اعتقادا بأن الحرب يمكن أن تعيد الجنوب مرة أخرى إلى سيطرة الشمال بشروط(الإسلامويين) فهو ليس(مراجعات) بل هو (تراجعات) مأساوية ومأزومة مدفوعة بالغضب والتوتر والإحباط، هذه التراجعات الخطيرة تعكس أزمة عميقة كامنة في نفوس كثير من الإسلامويين الذين تم تجييشهم للعمل السياسي على خلفية ما يسمى ب"المشروع الجهادي" طيلة سنوات الإنقاذ السابقة لمرحلة نيفاشا، فهذا المشروع شأنه شأن كل مشاريع الإسلام السياسي التي تعتمد على الشحن والتجييش العاطفي وتتعامل مع أعقد وأخطر القضايا السياسية والاجتماعية بمنطق تبسيطي يختزل الصراع السياسي بين سلطة الإسلام السياسي وأي طرف آخر بأنه صراع بين الكفر والإيمان، أو بين الصليبية والصهيونية من جهة والإسلام من الجهة الأخرى لا ينتج سوى التعصب، وفيما يتعلق بقضية الجنوب فقد تمت التعبئة"الجهادية" على أساس أن الحركة الشعبية وجيشها يخوضون حربا بالوكالة نيابة عن دوائر غربية صليبية وصهيونية تستهدف الشمال العربي المسلم في عقيدته الدينية وفي انتمائه العربي في تغافل تام عن المسببات الموضوعية للصراع والخلفية التاريخية له، فأصبح الجنوب في نظر الذين تمت تعبئتهم على هذه الخلفية (أرض ميعاد) إسلامي لا بد من فتحها والسيطرة عليها بالقوة بعد هزيمة أعداء الإسلام الصليبيين والصهاينة وعميلتهم الحركة الشعبية وجيشها، وعندما قادت جملة من المعطيات وحقائق الواقع السياسي المؤتمر الوطني إلى التوقيع على اتفاقية نيفاشا دخل كثير من المؤمنين ب"المشروع الجهادي" –إيمان العجائز- في حالة هي مزيج من الإحباط والارتباك والحزن والغضب، ومن الطبيعي أن يلعن هؤلاء الفريق التفاوضي الذي تفاوض مع الحركة الشعبية ويصفوه بالاستسلام ويحملوه المسئولية عن خيانة"المشروع الجهادي" وكأن ذلك الفريق التفاوضي كان كان يتفاوض أصالة عن نفسه ومن تلقاء نفسه ولم يكن ممثلا للحزب الحاكم ومفوضا من قيادته"العليا"! ولكن العقل الآيدولوجي المغلق لا بد أن يبحث كبش فداء تهربا من مواجهة الحقائق المجردة، والحقيقة المجردة فيما يتعلق بتوقيع المؤتمر الوطني على اتفاقية نيفاشا هي ان"المشروع الجهادي" حسب المنطق التبسيطي الذي تمت به التعبئة لا مجال لديمومته واستمراره على أرض الواقع السياسي، هو مشروع مؤقت يمكن استغلاله في المناورة والتكتيك السياسي حينا من الدهر، ويمكن استخدامه في التعبئة الحربية حينا آخر، ولكن مثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون خيارا استراتيجيا لحزب يريد أن يحكم دولة في إطار النظام الدولي الحديث، والإصرار على مثل هذا المشروع لا يمكن أن يقود أصحابه إلا إلى كهوف(تورا بورا) ومؤانسة (أسامة بن لادن) هناك! لذلك تجاوز البراغماتيون في المؤتمر الوطني هذا المشروع وقبلوا بنيفاشا، ولكن إشكالية هذا التجاوز أنه لم يكن نتاج تطور سياسي ذاتي أو مراجعات فكرية عميقة بل كان نتيجة مباشرة لضغوط دولية وتحديات داخلية، ولكن الاستجابة المرنة للضغوط الدولية ليست مدعاة للمذمة والتخوين إن صبت في مصلحة السلام الذي يجب أن يسعى له كل عاقل بإرادته الذاتية ودون ضغوط من أحد، ولكن الواقعين تحت تأثير التعبئة الجهادية بمنطقها التبسيطي لا يستطيعون قراءة توقيع المؤتمر الوطني على نيفاشا إلا في سياق نظرية المؤامرة التي لا يعرفون غيرها ولا يجيدون الفهم والتفسير لأي حدث على وجه الكرة الأرضية إلا بها، لذلك نجد اتهامات العمالة والارتزاق والانبطاح للصهيونية والركوع للامبريالية الأمريكية التي كانت تصوب للطائفيين والعلمانيين والشيوعيين والحركة الشعبية ؛ هذه الاتهامات هي الآن تصوب للفريق التفاوضي الذي تفاوض نيابة عن المؤتمر الوطني في نيفاشا ويتفاوض الآن نيابة عنه في قضايا ما بعد الاستفتاء!! يتم ذلك والبلاد أحوج ما تكون لاستدعاء العقل والحكمة من أجل الحفاظ على السلام، وآخر ما تحتاجه هو استنفار الآيدولوجيات المتعصبة واستنفار الكراهية العنصرية وإلباسها لبوس الدين والجهاد في سبيل الله، الذين يقرعون طبول الحرب في المؤتمر الوطني ويدعون إلى الانقلاب على السلام -سواء كانوا مبدئيين في هذه الدعوة أو مزايدين يستخدمون مثل هذه المزايدات الرخيصة في صراع (السلطة والثروة) داخل الحزب الحاكم- عليهم أن يكفوا عن هذا اللعب بالنار لأن البلاد هشة وأرضيتها التي بذرت فيها بكثافة بذور العنصرية والعنف والهوس الديني والهوس بنظرية المؤامرة طيلة العشرين عاما الماضية مهيأة لأن تتلقف بلا وعي وبصيرة الدعوات اللاعقلانية التي يطلقها الانتهازيون وسماسرة الأزمات الذين فشلوا في استيعاب أهم درس من دروس مشروعهم الجهادي المأزوم، فما زالوا يغالطون بل ويكتبون بلا حياء أن ذلك المشروع جعلهم ينتصرون على أمريكا ويحققون العزة والكرامة والاستقلال للسودان، في حين أن معطيات الواقع المعاش تشهد بأن هذا العهد الإسلاموي هو أكثر العهود التي شهدت تدخلا أمريكيا كثيفا أشبه ما يكون بالوصاية في الشأن السوداني، وهذه الوصاية الأمريكية والدولية على السودان ليست بسبب مجموعة من الانهزاميين المنبطحين الذين تنكروا للمشروع الجهادي حسب زعم الطيب مصطفى ومن لف لفه، بل إن ما يسمى ب"المشروع الجهادي" هو السبب في جرجرة السودان إلى خانة الوصاية! فهذا المشروع حول السودان إلى دولة فاشلة بامتياز غير مؤهلة لحل مشاكلها بنفسها، إن الذي يرفع عن السودان الوصاية الأمريكية أو أية وصاية أخرى هو بناء دولة راشدة قوية ومتطورة تثبت وجودها وفاعليتها في هذا العالم بتماسك جبهتها الداخلية حول نظام حكم راشد وديمقراطي، وبمؤسساتها الأكاديمية التي تنتج العلم والمعرفة باقتدار، وباقتصادها المنتج، وبإجادتها لعلوم وفنون ومهارات التأثير في العالم الخارجي وانتزاع مصالحها منه بمنطق وشروط اللحظة التاريخية الراهنة، وهذا ما فشل فيه "المشروع الحضاري الإسلاموي" بشقيه(الجهادي) و(البراغماتي) وما بينهما من أمور مشتبهات!، أما رفع اللافتات المكتوب عليها بالخط العريض(أم ضريوة تحذر أمريكا وتوجه لها الإنذار الأخير!!) كما رأينا أيام ذلك المشروع الجهادي المزعوم فلن يجدي فتيلا في تحقيق العزة والكرامة والاستقلال للدول، هذا هو الدرس المستخلص من "المشروع الجهادي" وليت جميع من في المؤتمر الوطني يعي هذا الدرس ويدرك أن الجهاد المطلوب الآن هو الجهاد في سبيل طرد شبح الحرب وبناء واستدامة السلام .