ربما يستنكر كثير من القراء عنوان المقال أعلاه ويسخرون من فكرة أن حزب المؤتمر الوطني يوجد به أناس جديرون بهذا الوصف، لاعتقادهم أن حزب المؤتمر الوطني كتلة صماء متواطئة على الاستبداد والفساد وتخريب السودان والبطش بشعبه؛ وكل ما يظهر على السطح من اختلافات وتباينات بين قياداته مهما كانت حادة؛ فما هي إلا جزء من عملية توزيع ماكر للأدوار في مسرحية خداع الشعب السوداني؛ ومثل هذه الآراء المطلقة والمواقف الحدّية المتشددة لها ما يفسرها ويبررها في سلوك حزب المؤتمر الوطني وممارساته في سياستنا واقتصادنا وتعليمنا وخدمتنا المدنية وفي إدارة أخطر أزماتنا في الجنوب ودارفور والشرق وجبال النوبة طيلة الأعوام الماضية التي تجاوزت العشرين بعام وخمسة أشهر، هذه الممارسات كرست الاعتقاد بأن المؤتمر الوطني عصي على الإصلاح في اتجاه ديمقراطي وأن لا مخرج من الأزمة الوطنية إلا باستئصاله من الحياة السياسية بالقوة، وهذه نتيجة كارثية على البلاد بأسرها، لأن وجود النزعة الاستئصالية تجاه أي حزب-مهما كانت عيوبه- هو خصم مباشر من رصيد الديمقراطية لأن نشدان التغيير الديمقراطي يستوجب مطالبة المؤتمر الوطني بفك احتكار السلطة وإنهاء احتلاله الغاشم لمؤسسات الدولة ومن ثم استيعابه في الساحة السياسية كشريك له حق الوجود والفاعلية والتأثير وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، وهذه المطالبة يجب أن تقترن بممارسة الضغوط القوية على المؤتمر الوطني عبر عمل سياسي منظم ومثابر ودءوب ومصحوب بالتضحيات من قبل أصحاب المصلحة في التغيير حتى يبتلع المؤتمر الوطني روشتة التغيير الديمقراطي، ولكن الذي حدث بالفعل في الواقع السياسي السوداني هو فشل (أصحاب المصلحة في التغيير) في إجبار المؤتمر الوطني على مجرد الإصلاح السياسي الجزئي باتجاه توسيع قاعدة المشاركة السياسية الحقيقية وتحرير الدولة السودانية من قبضة الحزب الحاكم، بل الذي حدث عقب الانتخابات الأخيرة هو مزيد من هيمنة الحزب الحاكم وانفراده بإدارة البلاد بصورة أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن لا مجال للتغيير السياسي عبر الانتخابات، ليس بسبب شعبية الحزب الحاكم وتراجع شعبية معارضية كما يهذي بذلك الإعلام الحكومي الكذوب والمضلل، بل لأن الانتخابات لم ولن تستوف الحد الأدنى من معايير الحرية والنزاهة ما دام الحزب الحاكم ينافس الآخرين بمقدرات وإمكانيات جهاز الدولة لا بمقدراته وإمكانياته الذاتية وما دام الحزب الحاكم يتعامل مع السلطة كصمام أمان وحماية بل و(إكسير) لحياته الحزبية التي لم يعد يتصورها بعيدا عن السلطة المطلقة!! وهذا الوضع أدى إلى حالة من اليأس والإحباط العام، واليأس التام من إمكانية الإصلاح والتغيير يقود عاجلا أم آجلا إلى المواجهات الاستئصالية العنيفة، ومثل هذه المواجهات في بلد يعاني من الاحتقان السياسي ومن هشاشة المؤسسات السياسية وعلى رأسها مؤسسة الدولة نفسها، ومن تمزق في النسيج الاجتماعي على خلفية صراعات ذات أبعاد عرقية ودينية تكلف الشعوب أثمانا باهظة من الدماء والدموع، والشعب السوداني ولا سيما في الجنوب وفي دارفور وفي جبال النوبة وفي الشرق دفع أثمانا باهظة في الحروب الأهلية التي أنهكت البلاد عقودا طويلة وهو الآن بحاجة ماسة إلى التقاط أنفاسه وتضميد جراحه وتقديس خيار السلام، وآخر ما يحتاجه الشعب السوداني الآن هو إشعال حروب جديدة والدخول مجددا في دوامة العذابات والمآسي والنزاعات العبثية حول قضايا يمكن حسمها الآن على طاولة المفاوضات إذا توفرت الحكمة والإرادة السياسية، وهذا يتطلب – كشرط ابتدائي- أن يمسك العقلاء في المؤتمر الوطني بزمام الأمور،فهذا الحزب –سواء اتفقنا أو اختلفنا معه- هو الحزب المسيطر الآن على ثلاثة أرباع السلطة في البلاد، وهو الذي يتولى التفاوض في أخطر قضية واجهت السودان منذ استقلاله –أي قضية الاستفتاء- و”عقلاء المؤتمر الوطني” أعني بهم الذين يدركون أن السودان في هذه المرحلة التاريخية أمام خيارين لا ثالث لهما : إما قبول انفصال الجنوب بسلام، وإما رفض الانفصال الذي يعني الحرب، وانطلاقا من هذا الإدراك يرغبون في اجتياز محطة الاستفتاء على حق تقرير المصير المزمع إجراؤه في التاسع من يناير المقبل بسلام، ومن هؤلاء العقلاء من نادى بقبول نتيجة الاستفتاء حتى وإن لم تكن العملية نزيهة تفاديا للحرب، وأعني بهم الذين يسعون إلى نزع فتيل الحرب عبر التفاوض الجاد مع الحركة الشعبية حول قضايا ما بعد الاستفتاء أو بمعنى أدق (قضايا ما بعد انفصال الجنوب)، والذين يؤمنون بضرورة التعايش السلمي والتعاون بين دولتي الشمال والجنوب في حالة الانفصال كضمانة استقرار لكلا الطرفين، والذين يدعون إلى المرونة والبعد عن التشنج والتعصب في إدارة ملف ترسيم الحدود، والذين يدعون دولة الشمال إلى دعم التنمية والاستقرار في دولة الجنوب لأن الجنوب المستقر الآمن خير للشمال من الجنوب المنهار المضطرب، والذين يبحثون عن حل سلمي لأزمة دارفور عبر هندسة الاستراتيجيات السياسية لا عبر تصعيد القتال، والذين يدعون للانفتاح على القوى السياسية الوطنية وإشراكها في قيادة البلاد ويدركون أن التحول الديمقراطي ضرورة لعافية حزبهم هم قبل أن يكون ضرورة لعافية الحياة السياسية في البلاد ككل، فالسودان لن يفلت من مصير التمزق والانزلاق إلى جحيم الحرب إلا بتحالف قوي ومتين بين “العقلاء” في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وكل القوى الوطنية المنحازة للسلام كخيار استراتيجي، لن يفلت السودان من هذا المصير المظلم(أي العودة إلى الحرب مع الجنوب وتصعيد الحرب المشتعلة أصلا في دارفور) إلا إذا ارتفع صوت “العقلاء” وطغى على صوت أعداء السلام الذين يدفعون المؤتمر الوطني نحو اتباع منهج (البصيرة ام حمد) في حل مشاكل البلاد المعقدة، البصيرة ام حمد التي نصحت من استشاروها في أمر (تيس) أدخل رأسه في (جرة) ولم يستطع إخراجه، فنصحتهم بأن يقطعوا رأس التيس!! ففعلوا ولكن وكما هو واضح منذ البداية لم يخرج الرأس من الجرة فنصحت البصيرة ام حمد بعد ذلك بكسر الجرة!! أتباع منهج(البصيرة ام حمد) في المؤتمر الوطني الآن ينصحون حزبهم بالانقلاب على (مشروع نيفاشا الانهزامي الاستسلامي وإبداله بالمشروع الجهادي الذي خاضت به الإنقاذ معاركها ضد أمريكا ودول الجوار المعتدية) وينصحونه ب(ضم الولايات الجنوبية الحدودية إلى الشمال)!! هذه هي نصائح رئيس ما يسمى بمنبر السلام العادل الطيب مصطفى في عموده بالانتباهة عدد الاثنين الماضي، أما الأستاذ الهندي عز الدين فقد نصح المؤتمر الوطني أن يحسم أزمة دارفور عسكريا (بالطائرات وبالصواريخ وبالراجمات، فالرئيس في كل الحالات مطلوب لمحكمة الجنايات)!! هذا ما كتبه بالحرف الواحد في عموده بصحيفة الأهرام اليوم عدد الأثنين 22 نوفمبر الجاري الذي وصف فيه الاستفتاء بأنه جريمة لتقسيم البلاد!! فهذه دعوات صريحة لإشعال الحرب مع الجنوب عبر الانقلاب على نيفاشا بالتراجع عن تنفيذ أهم وأخطر بنودها وهو الاستفتاء على حق تقرير المصير، وغزو الجنوب في ولاياته الحدودية وضمها بالقوة للشمال، ودعوة صريحة لتصعيد الحرب المشتعلة أصلا في دارفور، نتمنى أن تكون هذه الدعوات “المجنونة” مجرد آراء سقيمة تمثل أصحابها، ولا تعبر عن تيار معتبر في المؤتمر الوطني، ونتمنى أن ينجح(عقلاء الوطني) في عزل كل من يقرعون طبول الحرب لأن هؤلاء يدعون إلى الهلاك وأول الهالكين بأفكارهم تلك سيكون المؤتمر الوطني نفسه، فالمشروع “الجهادي” لم يكن مجديا في التسعينات بدليل أنه انتهى بالتوقيع على اتفاقية نيفاشا التي لم يوقع عيها المؤتمر الوطني لأنه كان واقعا تحت قبضة منهزمين واستسلاميين بل لأن واقع توازن القوى والمعطيات في الواقع الإقليمي والدولي فرض هذه الاتفاقية، ومهما يكن من أمر فإن هذه الاتفاقية أوقفت نزيف دم ووضعت حدا لفظائع يندى لها الجبين سحقت الشعب السوداني ولا سيما في الجنوب لعقدين من الزمان ولذلك فإن التوقيع عليها هو أفضل ما فعله المؤتمر الوطني في سنوات حكمه، وعليه أن يتوج هذا الإنجاز التاريخي بحسن إدارة عملية الاستفتاء وطي صفحة الحرب مع الجنوب إلى الأبد، أما بعث ما يسمى ب(المشروع الجهادي) في الألفية الثالثة وبعد أحداث 11 سبتمبر فلا يعني سوى التدخلات الدولية الحاسمة في ظل جبهة داخلية مفككة بل ومتحاربة وهذا سيجرجر البلاد إلى حتفها بالفوضى(غير الخلاقة)، وفي أوضاع كهذه سيكون المؤتمر الوطني أول من يلقى حتفه حقيقة لا مجازا!! و”عقلاء الوطني ” يعلمون ذلك جيدا! أما عن أزمة دارفور وحسمها عسكريا بالطائرات والصواريخ والراجمات فنحن نسأل (حُوار البصيرة ام حمد) لماذا لم تحسم الطائرات والراجمات والصواريخ قضية دارفور منذ عام 2003، فالعمل المسلح عندما انفجر في دارفور لم تواجهه الحكومة بالورود والرياحين بل واجهته بأقصى درجات العنف العسكري الذي لم يفرق بين مدنيين وعسكريين، وسلحت الجنجويد ومارست أبشع صور القمع فماذا كانت النتيجة؟ وما عساها أن تكون إذا عاودت الحكومة المضي في طريق (البصيرة ام حمد) وفتح جبهة للحرب في دارفور بالتزامن مع أخرى في الجنوب؟ إن خيار السلام هو الخيار الذي يمليه العقل الراشد بمنطق المصلحة، ويمليه الضمير الحر بمنطق الأخلاق والإنسانية ،فسلام على كل عقلاء السودان الذين يعملون من أجل بناء واستدامة السلام.