السيد عبد الرحمن المهدي (1885-1959)، ذهب للعيش في قرية شكابا، عندما دمرت الدولة المهدية، من قبل قوات الجنرال كتشنر، في معركة كر رى، وعندما هوجمت قرية شكابا وقتل إخوته سمح له، بسبب صغر عمره، البقاء مع نساء أسرة المهدي في جزيرة الفيل . كانت الحركة المهدية، قد تأسست في جزيرة أبا، ولهذا خطط السيد عبد الرحمن، بعد الاحداث الجسام التي مرت عليه، لجعل الجزيرة ثانية مركزا روحياً واجتماعياً واقتصادياً لحركته الجديدة. وعلى أية حال، فقد كان السيد عبد الرحمن لا يزال مشكوكاً فيه، من قبل الحكومة الانكليزية في السودان، ولم يسمح له بمغادرة جزيرة الفيل حتى عام 1906، عندما أعطى الإذن هو وعائلته بالرحيل إلى حي العباسية في أم درمان، والبقاء تحت المراقبة الدائمة لقسم المخابرات، بل والاشراف اليومي عليه وتعليمه على يد مفتي السودان ورئيس مجلس العلماء. وفي عام انتقاله الى حي العباسية، سمح له باستصلاح أملاك عائلته في جزيرة أبا، وطبيعي ان يكون يوم زيارته الأولى لأبا هو يوم بعث حركة الأنصار من جديد، كحركة سياسية ودينية. وعلى الرغم من أن الحكومة اعترفت به رئيسا لأسرة المهدي، الا أنها حذرته بحزم على أنها لن "تتغاضى عن تحول المهديين إلى هيئة متحدة"، دينياً أو بشكل أخر، كما انها "لن تستغني عنه زعيما لهم". منذ تأسيس الإدارة الإنكليزية في السودان، تم وبشدة تقييد المهدية كعقيدة دينية، فلم يكن يسمح لهم بقراءة الراتب في الاجتماعات العامة، والمنع الكامل للأنصار من الحج إلى جزيرة أبا، وكذلك منع أي محاولة من جانب الأنصار للصلاة عند ضريح قبة المهدي. أشار ريجنالد ونجيت، الحاكم العام للسودان، عام 1908 إلى ان المهدية "عقيدة محظورة"، ولهذا اتخذت الحكومة جميع الخطوات للتأكد من أن السيد عبد الرحمن لم يحصل على اعتراف عام ولكنه "ترك في معتزل لائق"، حسب وجهة نظر الحكومة، ولهذا كانت تدفع إليه راتباً شهريا قدره 5 جنيهات مصرية فقط، وطبيعي هذه لا تكفي لسد نفقاته والعائلة. ولمزيد من الامعان في التقليل من شأنه في عام 1909 أمر سلاطين باشا، المستشار الديني للحاكم العام، بأن لا يخاطب السيد عبد الرحمن بلقب السيد، ولا يسمح له بالتوقيع باسم عبد الرحمن المهدي، ولكن باسم عبد الرحمن أحمد فقط. ومن خلال التقارير المستمرة في مراقبة ومتابعة السيد عبد الرحمن، ففي احداها من عام 1912، لاحظ معاون مدير مديرية أم درمان، من ان السيد عبد الرحمن كان يتصرف بطريقة توحي بأنه كان" يحصل على مال كثير نوعا ما"، وهي اشارة الى الزكاة والهدايا من الاتباع، وكانت هذه هي الاشارة الاولى لظهور حجم السيد عبد الرحمن الجديد بنظر الحكومة، وبنفس الوقت دليل على وجود السيد اجتماعيا. وان أدق من وصف سياسة الحكومة تجاه المهديين كعقيدة وزعيمهم السيد عبد الرحمن هو سلاطين باشا في عام 1926 عندما دون في احدى رسائله واصفا سياسة الحكومة، قبل الحرب الاوروبية، تجاه المهدية وزعيمها بانها سياسة " تسامح ولكن لا اعتراف"، وعملياً فإن ذلك يعني عدم استمرا اضطهاد المهديين، كما لم يمتلكوا الحرية لنشر أفكارهم. على الرغم من أن السيد عبد الرحمن، كما لاحظناه، كان يعيش في ظل عزلة سياسية، الا ان دخول تركيا الحرب أدى إلى تغيير موقف الحكومة تجاه المهدية وزعيمها الجديد، ونسيان نتائج الحرب الوحشية التي خاضوها ضد انصار والده في كرري، حيث كانت مساعدته مطلوبة للعمل ضد نفوذ الموالين للأتراك اولا، ولإضافة زخم آخر لتأثير دعاية الحكومة ضد تركيا ثانيا. ولتحقيق هذا الهدف، فقد أرسل الحاكم العام في يناير عام 1915، السيد عبد الرحمن إلى جزيرة أبا، وهي منطقة معروفة له فيها النفوذ الواسع. وحدث هذا على الرغم من ان سايمز، سكرتير ونجيت الخاص، قد اعترف بالمجازفة التي ينطوي عليها هذا التغيير في سياسة الحكومة، وعليه حذر السيد عبد الرحمن بوجوب عدم استخدامه هذه الفرصة التي سنحت بزيارته إلى الجزيرة لتنظيم المهديين هناك. ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من أن زيارة السيد عبد الرحمن ساعدت الحكومة في سياستها المعادية للأتراك، فأن الأنباء المقلقة حول نشاطاته بين المهديين، التي وصلت الحكومة، أدت إلى استدعائه العاجل في بداية عام 1916. وعلى الرغم من الحاجة الماسة لتأييد انصار المهدي في السودان، الا انه، في عام 1915، كرر ونجيت رأيه، الذي كان قد أعرب عنه قبل سبع سنين مضت، من وجوب الاستمرار في التعامل مع المهدية على انها عقيدة محظورة وزعيمها "دجال"، وما كان على السيد عبد الرحمن المهدي الا الصبر والتحمل على التقلبات في المواقف تجاه طائفته، لاقتناص ما يمكن اقتناصه لإعادة الروح الى جسد المهدية. بالتوازي مع تغير الموقف تجاه السيد عبد الرحمن، ونتيجة لحاجة الحكومة لمساندته في عام 1915، ثارت التساؤلات حول وضع المهدية كطائفة دينية، فأصبحت قراءة الراتب والصلاة المهدية أكثر علنية. وفي مايو عام 1916 قام نائب حاكم إقليم النيل الأزرق، خلافاً مع السياسة الرسمية لحكومته وبالتشاور مع السيد عبد الرحمن، بتعيين المقدمين من بين أتباعه الدناقلة في مدني، ولم تتخذ الحكومة اي إجراء ضد هذا التصرف. وهو ما يشير إلى أنهم قد اعترفوا بأن السيد عبد الرحمن يمكن أن يكون ذا فائدة جمة لهم الآن وفي المستقبل، وبالمقابل بدهائه السياسي أخذ يعمل على زيادة نفوذه اينما تمكن على ذلك. والقرار الأهم الذي جناه السيد عبد الرحمن المهدي مكافأة له، لما قدمه في الحرب، هو في نهاية عام 1917، تمكن من انتزاع اعتراف، طال انتظاره، من السير لي ستاك، سردار الجيش المصري والحاكم للسودان، ففي مقابلة له مع السيد عبد الرحمن المهدي، أكد ستاك له الاعتراف رسميا بخدماته وقبول ولائه للحكومة بدون اي تحفظ، وكانت هذه المناسبة لحد هذه الفترة، هي المفتاح الأهم لإعادة بناء المهدية الجديدة. وفي تطور لاحق، في يناير عام 1918 سعى السيد عبد الرحمن المهدي إلى الحصول على إذن من نائب مدير المخابرات لتأدية الصلاة في جامعه في أم درمان، وما كان لهذا من مغزى آنذاك، وفعلا نجد ان الحاكم العام قد وافق على طلبه بنفس الشهر، وهي نقلة نوعية في موقف الحكومة تجاه السيد عبد الرحمن شخصيا. وقد اخذ نجم السيد يبرز ويلمع سياسيا واقتصاديا بحيث أصبح قادرا على صرف مبلغ كبير على بيته ذو الطراز الأوربي في الخرطوم في عامي 1919. وان إحدى أهم الطرق الأخرى التي عزز بها السيد عبد الرحمن المهدي مركزه، ومد نفوذ المهدية من خلالها، هو تعيين الوكلاء في الأعوام من 1916 وحتى عام 1921، حيث أصبح وكلاؤه يتواجدون في كل أجزاء السودان، وفي أحيان كثيرة كان الوكلاء يعينون مثلا لأغراض خاصة من الواضح أنها عديمة الضرر، فعلى سبيل المثال، اقترح السيد عبد الرحمن وجوب إرسال وكلاء إلى كسلا للتحقيق في نشاطات المهديين المزعومة هناك، وقد قبل اقتراحه في أيار عام 1919 . وبصورة ملموسة، قادت نشاطات السيد عبد الرحمن ومواقف الحكومة تجاهه، إلى ازدياد الحج إلى جزيرة أبا، وهو تطور جديد، وفي مايو عام 1923 كان الرقم يقدر ما بين 5.000 الى 15.000 ألف شخص، وهو رقم جدا ضخم مقارنة بمواقف الحكومة السابقه تجاه المهدية كعقيدة. كان قرار الحكومة بإرسال السيد عبد الرحمن إلى لندن عضواً في وفد لتهنئة الملك على انتصار الحلفاء في الحرب، خطوة أخرى تتميز بأهميتها، وجائزة أكبر لولائه وخدماته أثناء الحرب، وتعبيراً آخر عن الهيبة السياسية المتزايدة والاحترام الذي تكنه الحكومة تجاه السيد عبد الرحمن المهدي والأنصار عموما، لذلك لم يتردد السيد من الوقوف علانية وبوضوح ضد الدعاية المصرية في ثورة عام 1924 . وفي يوم الملك عام 1926 كوفئ السيد عبد الرحمن بوسام" فارس فخري للإمبراطورية البريطانية، مما جعله ان يستغل زيارة الحاكم العام إلى الجزيرة أبا في العام ذاته، لزيادة مكانته السياسية في البلاد، حيث تم عمل استقبال رسمي للحاكم العام بحضور استعراض من حوالي 1500 من فرسان الانصار، وما من شك ان هذه الزيارة قد أثارت امتعاض زعماء الدين البارزين، وقلق فريق كبير من اعضاء حكومة السودان، لاستمرار انطلاقة السيد عبد الرحمن سياسيا. وعلى الرغم من هذا الخلاف الحكومي في المواقف تجاه السيد، الا انها لم تتأخر من انقاذ مشاريعه الاقتصادية، عندما تعرضت لبعض المضاربات الاقتصادية، مما دفع الحكومة لتقديم قرض مقداره 4.500 ألف جنيه مصري لمساعدته في عام 1926. ويمكننا القول، انه على الرغم من أن الحكومة بقيت تشك في طموحات السيد عبد الرحمن السياسية، وبروزه زعيما له أتباع كثيرون، وغدت الحكومة مهددة بقوته ونفوذه المتناميين في البلاد. الملاحظة المهمة هو ان قوة عزيمة السيد عبد الرحمن المهدي جعلته يقود سفينته وسط الامواج المتلاطمة من خلال تقلب سياسة الحكومة وتناقض اراء افراد طاقم الحكومة فيما بينهم. ++++++ [email protected]